يُعرف الدستور بشكل عام على إنه " مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها بدون التدخل في المعتقدات الدينية أو الفكرية"
من أبرز المبادئ التي يتضمنها الدستور هو مسألة الاقتصاد ويحدد دور الدولة والافراد فيه، أي هل تقوم الدولة بالاقتصاد بشكل كامل أم يقوم القطاع الخاص من أفراد وشركات فيه أم هناك خيار أخر؟
حيث يختلف الدور الاقتصادي للدولة في ضوء الدستور من دولة لأخرى ومن وقت لآخر حسب ثقافة المجتمع والنظام السياسي الذي تتبناه الدولة، فإذا ما كانت ثقافة المجتمع هي الحرية والانفتاح والنظام السياسي هو النظام الديمقراطي سيكون الدور الاقتصادي للدولة في ضوء الدستور محدود جداً والعكس صحيح.
ونظراً للترابط الوثيق بين السياسة والاقتصاد فإن إجراء التحول السياسي الذي حصل في العراق بعد عام 2003 من الديكتاتورية إلى الديمقراطية رافقه إشارات واضحة في الدستور العراقي على الإصلاح الاقتصادي من التخطيط باتجاه السوق.
لان التخطيط كان المسؤول الأول عن الاقتصاد تخطيطاً وتنفيذاً بواسطة الدولة وما للقطاع الخاص من أفراد وشركات إلا الهامش في الاقتصاد باستثناء الأوقات الحرجة كما في حالة الحصار الاقتصادي خلال حقيقة التسعينات حيث سُمح للقطاع الخاص أن يأخذ دوراً معتداً به في الاقتصاد حتى عام 2003.
ونتيجة لغياب التحول المدروس اقتصادياً بعد عام 2003 لحد الوقت الحاضر إلى جانب الإفراط في الاعتماد على النفط وشيوع الفساد في أغلب مفاصل الدولة بالتزامن مع توالي الأزمات الداخلية والخارجية، ظل الاقتصاد العراقي يسير في النفق المظلم ويستجيب بسرعة للإحداث المحلية والإقليمية والدولية لأنه فاقد للمتانة والاستقلال الاقتصادي نتيجة لعدم تبني برنامج إصلاح اقتصادي راسخ تعمل على تطبيقه الحكومات المتعاقبة بشكل تكاملي.
وفي كل أزمة اقتصادية تتعالى الأصوات بالإصلاح الاقتصادي ومجرد أن تختفي الأزمة بشكل آني تخفت تلك الأصوات مما يعني إن تلك الأصوات تتعامل مع الشأن الاقتصادي في ضوء الفعل وردة الفعل بعيداً عن الموضوعية العلمية والرؤية الاقتصادية التي تروم تحقيق الإصلاح الاقتصادي وبما ينسجم مع الدستور العراقي.
حيث أشار الدستور العراقي في العديد من مواده للإصلاح الاقتصادي يمكن ذكر أبرزها في الآتي:
المادة (23) -أولاً-" الملكية الخاصة مصونةٌ، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون"
الملكية الخاصة لم تكُن بهذا المفهوم قبل عام 2003 لان الدولة كانت هي المسؤول والمالك لأغلب وسائل الإنتاج ولا يحق للأفراد امتلاكها إلا بشكل محدود وفي ظل الأزمات. ثم عزز، الدستور العراقي؛ تلك الملكية في نفس المادة ثانياً-"لا يجوز نزع الملكية إلا لأغراض المنفعة العامة مقابل تعويضٍ عادل، وينظم ذلك بقانون"
كما أعطى الدستور العراقي ما لم يكُن متاحاً قبل 2003 ألا وهو حق التملك وحرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الأموال داخل العراق بين الأقاليم والمحافظات كما في المادة (23) ثالثاً-أ-" للعراقي الحق في التملك في أي مكانٍ في العراق، ولا يحق لغيره تملك غير المنقول، إلا ما استثني بقانون" والمادة (24) "تكفل الدولة حرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الأموال العراقية بين الأقاليم والمحافظات، وينظم ذلك بقانون"
ثم نص الدستور العراقي بشكل صريح غير قابل للتأويل على إصلاح الاقتصاد العراقي في المادة 25 منه " تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أُسسٍ اقتصاديةٍ حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته"
وكما ذكرنا آنفاً إن نظام التخطيط كان المسؤول الأول عن الاقتصاد تخطيطاً وتنفيذاً بواسطة الدولة وما للقطاع الخاص من أفراد وشركات إلا الهامش في الاقتصاد، لذلك فالمقصود من إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أُسسٍ اقتصاديةٍ حديثة هو التخلي عن دور الدولة في الاقتصاد وإحلال القطاع الخاص محلها مما يعني العمل على تطبيق اقتصاد السوق القائم على الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية والمنافسة وحياد الدولة وإشرافها على أداء الاقتصاد لمنع تشوهات السوق من الظهور.
إن ضمان استثمار كامل الموارد وتنويع مصادر الاقتصاد العراقي مربوط بمدى رغبة وجديّة الدولة في تنمية القطاع الخاص وتشجيعه من خلال فسح المجال أمامه عبر محاربة الفساد وتحسين بيئة الأعمال وتمليكه الأرض وتوفير التمويل وحماية أقلية المستثمرين والدخول في شراكات حقيقية معه.
إن عدم التزام الحكومات السابقة بالدستور العراقي وبالخصوص فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي وبشكل حقيقي دفع بالاقتصاد العراقي لمزيد من التعقيد بسبب تراكم الأخطاء وعدم معالجتها وهذا المشهد سيستمر نحو الأسوأ مستقبلاً إذا ما تم الرجوع للإصلاح الاقتصادي المشروع دستورياً.
إن قيام الحكومة الحالية، حكومة السيد الكاظمي، بتقديم ورقة للإصلاح المالي والاقتصادي تحت عنوان " الورقة البيضاء" هي خطوة بالاتجاه الصحيح رغم المؤاخذات التي أثيرت حولها، كونها تتطلب مديات متوسطة وطويلة الأجل لتحقيقها في حين إن عمر الحكومة لا يتجاوز السنتين إضافة إلى إن وظيفتها الرئيسة هي إجراء انتخابات مبكرة!
إنها خطوة بالاتجاه الصحيح لأنها دستورية ورسمت خارطة الطريق الذي ينبغي على الحكومات اللاحقة أن تسير عليها لتخليص الاقتصاد العراقي من الضعف الاقتصادي وتحقيق المتانة والاستقلال الاقتصادي وهذا ما سيجعل المجتمع العراقي أكثر رفاهيةً.
وتجب الإشارة والتذكير، إن البرلمان العراقي كان له الدور في إجبار الحكومة على تقديم الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي حينما اضطرت للرجوع إليه من أجل قانون الاقتراض لتمشية وضعها المالي، وعليه الاستمرار في متابعة الحكومات اللاحقة على تطبيق بنود هذه الورقة لتعطي ثمارها كما مرسوم لها وبهذا يكون للبرلمان الدور الكبير في بناء الاقتصاد العراقي.