معروف، أن الاقتصاد العراقي كان يتبنى النظام الاشتراكي وتقوم الدولة، وفقاً لهذا النظام؛ بإدارة الاقتصاد، بشكل كامل تقريباً؛ عبر التخطيط المركزي. حيث كانت الدولة هي المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي، ابتداءً بالملكية ومروراً بالإنتاج والتوزيع والتصدير والاستيراد وانتهاء بالاستهلاك، ولا يحق للقطاع الخاص من ممارسة دوره إلا بشكل محدود أو في ظل الأزمات، حين لا تستطيع الدولة الاستمرار في نشاطها، فتسمح بتوسع نشاط القطاع الخاص كما حصل في مرحلة التسعينيات.
إذ كانت الدولة العراقية والقطاع العام يعتمد بشكل كبير جداً على الإيرادات النفطية، ومجرد توقف تلك الإيرادات نتيجة الحصار الاقتصادي القاضي بتوقف الصادرات النفطية، فسحت الدولة المجال أمام القطاع الخاص ليحل محلها في سد الطلب المحلي، فأصبح دوره مرحلي مؤقت وليس جذري دائم.
في عام ٢٠٠٣ تم اسقاط النظام في العراق، نظام الحزب الواحد، سياسياً، ونظام الخطة، اقتصادياً، وتم تبني الديمقراطية واقتصاد السوق، دستورياً، كما في المادة (١) من الدستور العراقي لعام ٢٠٠٥ التي تنص على ان
" جمهورية العراق دولةٌ اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ(برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق"
والمادة (٢٥) التي تنص على ان
" تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسسٍ اقتصاديةٍ حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته"
وغيرها الكثير من المواد التي تشير من قريب ومن بعيد الى التوجه الجديد للعراق سياسياً واقتصادياً، صوب الديمقراطية، سياسياً؛ واقتصاد السوق، اقتصادياً؛ ولكن يبدو من خلال الواقع إن هذا التوجه لايزال يعاني من تحديات كبيرة ماثلة أمامه لا يستطيع تجاوزها بسهولة لأنها ذات جذور ممتدة في عمق التاريخ العراقي.
أن وجود هذه المواد في الدستور العراقي، يعني إن مسألة الإصلاح الاقتصادي هي مسألة دستورية، لابُد من العمل على تطبيقها من قبل الحكومات المتعاقبة لمعالجة الاختلالات الاقتصادية التي يعانيها الاقتصاد العراقي، والتي أسهمت في إفراز الكثير من الآثار السلبية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وامنياً وغيرها.
إن عملية الإصلاح الاقتصادي تعني انسحاب الدولة من الاقتصاد ليحل محلها القطاع الخاص ويكون المحرك الرئيس في الاقتصاد وفق مبادئ اقتصاد السوق، المتمثلة في الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية والمنافسة ومنع الاحتكار؛ على أن يكون ذلك الانسحاب تدريجياً لتلافي الآثار التي تفرزها عملية الانسحاب المفاجئ.
ما حصل بعد عام ٢٠٠٣ هو انسحاب الدولة بشكل مفاجئ من النشاط الاقتصادي مع الاحتفاظ بالملكية العامة وفي الوقت ذاته إن القطاع الخاص مُطالب أن يحل محل الدولة دون تهيئة بيئة مناسبة له تحفزه وتشجيعه على الانخراط في النشاط الاقتصادي، لا بل التعقيد كان حاضراً وبقوة ولايزال، وبالخصوص الفساد وصعوبة بيئة الأعمال! وكلا الأمرين، الانسحاب مع الاحتفاظ بالملكية العامة وغياب البيئة المناسبة، أسهما في اعاقة الاصلاح الاقتصادي.
فعلى مستوى الملكية، لاتزال الدولة تملك الكثير من عناصر الإنتاج وبالخصوص الأرض ورأس المال، حيث تملك الدولة أكثر من ٨٠% من الاراضي، وتهيمن على الثروة النفطية والجهاز المصرفي بشكل كبير.
وعلى مستوى بيئة الاعمال، حيث احتل العراق المرتبة ١٦٩من أصل ١٨٠ دولة عام ٢٠١٨ في مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، والمرتبة ١٦٨ من أصل ١٩٠ لنفس العام في مؤشر سهولة أداء الأعمال الصادر عن البنك الدولي.
ان اغلب الحكومات السابقة كانت دعت للإصلاح الاقتصادي في برامجها وخططها وسيتم إعطاء مساحة واسعة للقطاع الخاص لممارسه دوره المنشود ولكن يبدو إن تلك الدعوات هي للاستهلاك الإعلامي ليس إلا، لان هناك تعثراً واضحاً على أرض الواقع، وما اتجاه أغلب المؤشرات الاقتصادية نحو الأسوء إلا دليل على هذا التعثر.
الحكومة الحالية برئاسة السيد الكاظمي أعلنت عن توجهها الاقتصادي وسوف تعمل على إصلاح الاقتصاد وفق مبادئ اقتصاد السوق والابتعاد عن أحادية المورد وتفعيل القطاعات الاقتصادية الاخرى ولابد من التركيز على القطاع الخاص وان يكون القطاع الخاص قبطان الاقتصاد العراقي.
ولكن بمَ تختلف حكومة السيد الكاظمي عن الحكومات السابقة لتكون قادرة على إصلاح الاقتصاد العراقي، خصوصاً وإن مدتها قصيرة ومهمتها الرئيسية هي سياسية أكثر مما هي اقتصادية، كونها تتطلع لإجراء انتخابات مبكرة بشكل خاص، وإن عملية الإصلاح الاقتصادي تتطلب المزيد من الوقت؟
من السابق لأوانه اصدار الاحكام القطعية بجديّة أو عدم جديّة الحكومة الحالية بشأن الإصلاح الاقتصادي كونها تجاوزت للتو الربع من عمرها، ولكن على افتراض انها عازمة عليه، يفترض بالمراكز البحثية والمختصين دراسة ومناقشة هذا الملف وكتابة أبرز التوصيات ووضعها أمام الحكومة لتقوم بتطبيقها، إن كانت جادّة في عملية الإصلاح الاقتصادي.
إن عملية الإصلاح الاقتصادي عملية شاقة وطويلة، لا يمكن تحقيقها بسهولة خلال مدة وجيزة، بسبب ضخامة العقبات بل وتجذُرها في المجتمع العراقي وأصبحت جزءاً من تصميمه، تفكيراً وسلوكاً، خصوصاً، إذا ما علمنا أن الاقتصاد هو علم اجتماعي يرتبط بالمجتمع بشكل مباشر، مما يستلزم تصميم عملية الإصلاح الاقتصادي بشكل دقيق لضمان عدم نفور المجتمع لها بل واستقباله لها وتفاعله معها بشكل إيجابي.
ولضمان سير عملية الإصلاح الاقتصادي بشكل سلس لا بُد أن تعمل الدولة في بداية الأمر لصالح القطاع الخاص على أن يعطي هذا الأخير ثماره بالشكل الذي يخدم المجتمع، وذلك من خلال اعتماد مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص، حتى يرى المجتمع ثمار القطاع الخاص بشكل كبير ويتفاعل معه بشكل أكبر، وبهذا تستطيع الحكومة أن تجعل المجتمع يتقبل اقتصاد السوق وتجذره بأسرع وقت.
أن العمل لصالح القطاع الخاص من قبل الحكومة الحالية لوضع الاقتصاد العراقي بالاتجاه الصحيح، لابُد من اتخاذ العديد من الإجراءات بهذا الصدد، يمكن تحديد أبرزها في الآتي:
أولاً: إلغاء هيمنة الدولة على الأراضي وفتح باب البيع والتمليك للقطاع الخاص، أفراد وشركات؛ وفق مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص.
ثانياً: منع ومكافحة الفساد وتبسيط الاجراءات، لتكون حافزاً لجذب المستثمرين للاستثمار وتوليد فرص العمل.
ثالثاً: إشراك القطاع الخاص في الشركات العامة، لتخفيف أعباء المالية العامة وتحسين انتاجيتها.
رابعاً: إعادة هيكلة الجهاز المصرفي وتوسط الدولة ما بين الجهاز المصرفي والقطاع الخاص، لضمان تسهيل التمويل للمستثمرين وتشجيعهم على الاستثمار.
خامساً: مراعاة الاستيرادات التنموية التي يستوردها القطاع الخاص لأجل دعمه وتحفيزه وبما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية.