لا ينكر أحد ثقل التركة التي خلفتها الحكومات السابقة على كافة المستويات، ومنها الجانب الاقتصادي. فمنذ العام 2003 تتراكم التداعيات الاقتصادية الناجمة عن ضعف وفساد الحكومات العراقية في ادارة الثروة النفطية بشكل يناسب الايرادات المتحققة وتطلعات افراد المجتمع في العيش بكرامة وعدالة ورفاه والتمتع بخيرات البلد الوفيرة. حكومة مصطفى الكاظمي ولدت في ظروف استثنائية بحاجة لسياسات غير تقليدية لمواجهة ازمة ثلاثية الابعاد (احتجاجات شعبية، فيروس كورونا، تراجع اسعار النفط). والاخطر ازمة تفشي فيروس كورونا التي دفعت العراق الى الجزء الحاد من الازمة نظرا لتراجع الطلب العالمي على النفط وتراجع الاسعار والايرادات النفطية الى أكثر من (75%)، من 6.1 مليار دولار تحققت في كانون الثاني الى 1.4 مليار دولار تحققت في نيسان الماضي. ولا شك فان انحسار الايراد النفطي زاد من صعوبة ادارة الازمة الصحية وتطويق التداعيات الاقتصادية للحجر الصحي وما ترتب عليه من توقف شبه تام للأعمال وضغط اقتصادي ومالي ومعيشي للطبقات الفقيرة والهشة في العراق.
ومع شحة الخيارات المالية المتاحة لبلد يعتمد على النفط بأكثر من (90%) في تمويل الموازنة العامة، ولا يمتلك صندوق سيادي او احتياطات مالية قادرة على امتصاص الصدمات، كان لزاما على الحكومة الجديدة البدء ببرامج اصلاح وضبط للأنفاق العام مع جهود عالية لتعظيم الايرادات غير النفطية. في هذا السياق، ناقش مجلس الوزراء مطلع حزيران الجاري حزمة اصلاحات مالية حملت عنوان "مناقشة الامور المالية واعادة ترتيب اولويات تمويل بنود الموازنة" واهم ما جاء فيها:
1- ايقاف التعينات كافة واعادة التعيين على الملاك المؤقت كالعقود.
2- ايقاف النفقات غير الضرورية في الدوائر الممولة مركزيا او ذاتيا.
3- اعادة جدولة القروض المستحقة على الموظفين للمصارف كافة.
4- تحديد سقوف عليا للرواتب المستلمة من لدن السجناء السياسيين وغيرهم.
5- اعادة النظر برواتب محتجزي رفحاء وغيرهم وفق ضوابط حاكمة.
6- الزام المصارف الحكومية بتقديم كشوفات نصف شهرية عن حركة حسابات وحدات الانفاق العامة.
7- التفاوض مع شركات النفط العاملة في العراق لإعادة النظر في جولات التراخيص وتخفيف العباء المالية المترتبة على تلك العقود.
8- خفيض اجمالي مخصصات الرئاسات الثلاث والدرجات العليا بشكل كبير ووفق نسب متدرجة.
9- ان يكون اعلى راتب تقاعدي (5) مليون دينار.
10- فقرات اخرى.
ورغم غياب العديد من الخطوات المالية المطلوبة، خصوصا على مستوى تعظيم الايرادات غير النفطية، الا ان اقدام الحكومة على تقليص نفقات شبه جامدة ومحمية من الكتل والاحزاب السياسية هي خطوة طويلة باتجاه كسر الجمود الذي يطوق جهود وسياسات الاصلاح في العراق منذ العام 2003. كما يتطلب نجاح الحكومة في مساعي الاصلاح المالي الاهتمام بعدد من التساؤلات لتعزيز خطوات الاصلاح المذكورة في اعلاه، ومنها:
1- ما شكل الموازنة التي ستعتمد وتضمن فيها القرارات الواردة في التقرير؟ هل هي موازنة نصف سنوية ام موازنة شهرية ام ماذا؟
2- هناك العديد من المخصصات شرعت بقانون ولا يمكن الغائها الا بقانون (كمخصصات الخدمة الجامعية) فكيف سيتم التعامل معها.
3- بعض الفقرات واجبة التنفيذ بتاريخ 1/6/2020، هل يعني ذلك انها لن تمر بمجلس النواب؟ علما بان الاخير صاحب القول الفصل في اقرار مشاريع القوانين الحكومية وتعديلاتها ايضا.
4- لا يوجد ذكر لتعظيم ايرادات الدولة عبر اعادة النظر في ملف العقارات الحكومية رغم اهميتها.
5- غابت المعالجات الحقيقية لكبح الفساد المستشري وتعظيم الموارد المالية الحكومية من المورد النفطي البديل (المنافذ الحدودية)، فقط تمت الاشارة الى ايقاف الاستثناءات على الاعفاءات الممنوحة على السلع.
6- لم يشر التقرير الى ضرورة تشكيل لجنة مختصة لتدقيق وفحص قوائم الرواتب لكافة موظفي الدولة لعزل الفضائيين واصحاب الرواتب المزدوجة والتحقق من الاعداد الضخمة من موظفي الدولة.
7- لم يشار الى الملف المالي العالق بين المركز والاقليم ولم يشار ايضا الى مشروعية تمويل رواتب الاقليم دون تسليم الاخير النفط المصدر.
8- يثار تساؤل حول امكانية الحكومة الاتحادية من تطبيق الاجراءات الاصلاحية المذكورة على الاقليم رغم منع الاخير ديوان الرقابة المالية الاتحادي والهيئة العامة للكمارك من فحص وتدقيق السجلات خلال السنوات الماضية.
9- لم تذكر الاموال العراقية في الخارج ولا الديون المستحقة على شركات الاتصال وغيرها من الشركات ولا اليات استحصالها لتكون مصدر للتمويل الحكومي في الوقت الراهن.
مع ذلك، لا تقلل الملاحظات الواردة من شأن المساعي الحكومية لإدامة زخم التمويل الحكومي للرواتب بالحدود الدنيا والانصراف الى اسعاف الطبقات الهشة في المجتمع العراقي، والتي حوصرت بسبب اجراءات الحضر من جهة وضعف النشاط الاقتصادي من جهة اخرى. كما يجب التأكيد على ضرورة ان تكون الاصلاحات شاملة وغير مجزئة، كما حصل في السنوات السابقة، فلا يعقل ولا يقبل ان تخفض رواتب الموظفين وثقوب الفساد تبتلع اموال الخزينة الحكومية فضلا على تسرب ايرادات المنافذ الكمركية دون رقيب او حسيب الى جيوب الاحزاب والمافيات السياسية في العراق، ومن غير المنصف ايضا ان تطبق اجراءات التقشف وخفض الرواتب ورفع الرسوم والضرائب بحق محافظات الوسط والجنوب في حين يمتنع اقليم كوردستان عن الرضوخ لذات الاجراءات الحكومية بحجة الاستقلالية وسيادة الاقليم، مع استلام كافة المستحقات المالية دون تسليم برميل نفط واحد للحكومة الاتحادية منذ سنوات طويلة.