منحت العديد من البنوك المركزية أبعادا وآفاقا أوسع وأعمق لفهم طبيعة الدور الذي يمارسه البنك المركزي في النشاط الاقتصادي للبلد من خلال ما يمتلكه من صلاحيات وإمكانيات فعلية تمكنه من ممارسة مهامه ووظائفه لكي يحقق أهداف السياسة النقدية لذلك نجد أن العديد من البلدان قد عدّلت أو شرعّت قوانين جديدة تضمن استقلالية بنوكها المركزية.
مبررات استقلالية البنوك المركزية
تزخر الأدبيات الاقتصادية بالعديد من الدراسات التي تعرضت بالبحث والتحليل لمضمون وأهمية استقلالية البنك المركزي ودورها في إرساء دعائم النمو والاستقرار الاقتصادي والنقدي. وقد أفصحت معظم هذه الدراسات عن أن بنوكا مركزية أكثر استقلالية عن السلطة التنفيذية عموما والسلطة مالية بشكل خاص، ستصدر عنها سياسة نقدية أفضل واستقرار اقتصادي أقوى وأطول أمداً. في هذا الصدد يسوق تيار المؤيدين لاستقلالية البنك المركزي عدد من الحجج أبرزها (1):
1-إن الشؤون المتعلقة بالنقد ينبغي إبعادها عن نفوذ السياسيين نظرا لأن أعضاء الحكومة والبرلمان يعطون الأولوية لإرضاء ناخبيهم، فيعتمدون سياسات تتفق مع مصالحهم السياسية والانتخابية (منها إخضاع البنك لضغوط سياسية تتعلق بانتهاج سياسة نقدية توسعية قبيل الانتخابات) ولكنها تضر بقيمة النقود وترفع من معدل التضخم، لذا ينبغي إسناد أمر هذه الشؤون إلى بنك مركزي مستقل عن الحكومة.
2-إن قدرة البنك المركزي على تحقيق، والإبقاء على، الاستقرار طويل الأجل للأسعار ، سوف تتحسن اذا كانت صياغة السياسة النقدية بأيدي مسؤولين بعيدين عن السياسة يكون باستطاعتهم النظر الى المدى الطويل.
3-إذا كان البنك المركزي مستقلا فإن السياسة التي يتبعها في هذه الحالة سوف تؤدي الى انخفاض التضخم واستقرار مستويات الأسعار. وقد استند هذا الفهم إلى العديد من الدراسات التي بحثت العلاقة بين درجة استقلالية البنوك المركزية والتضخم، وانتهت الى وجود علاقة عكسية بينهما خاصة في البلدان المتقدمة، بمعنى انه كلما كانت درجة استقلالية البنك المركزي أعلى كلما كان معدل التضخم أقل، الأمر الذي يدعم وجهة النظر القائلة بأن توفير درجة أعلى من الاستقلالية للبنك المركزي يساعد على تخفيف عبء التضخم وزيادة مصداقية السياسة النقدية.
4-تستطيع البنوك المركزية ذات الدرجة العالية من الاستقلالية مقاومة طلبات الحكومة لتمويل عجز الموازنة العامة سواء عن طريق إصدار المزيد من النقود أو حيازة سندات الدين العام. وبشكل أدق تعني استقلالية البنك المركزي عن الحكومة في هذا السياق ان الأخيرة لا تستطيع إجبار البنك المركزي على تمويل العجز في الموازنة العامة.
5- تُناط بالبنك المركزي مسؤولية مراقبة وتوجيه النظام المالي في الدولة، وكذلك إيجاد التنسيق المطلوب بين مؤسساته المختلفة، مما يتطلب تمتع البنك المركزي بالاستقلالية.
6-إن استقلالية البنك المركزي ستؤدي إلى إبعاد تأثيرات الحكومة عن هذه البنوك فيما يتعلق بتحديد نفقاتها وإيراداتها، ومن ثم فصل موازنة البنك المركزي عن الموازنة العامة للدولة.
7-إن تزايد عولمة الأسواق المالية واقترانها بالأزمات المالية المتكررة، يستدعي استقلالية البنك المركزي في التصدي لهذه الأزمات من خلال استخدام الأدوات النقدية المناسبة.
وهكذا يستطيع البنك المركزي المستقل مقاومة ضغوط السلطة المالية والسياسية ومن ثم إتباع سياسة نقدية حصيفة تصب في مجرى الصالح العام، ممثلا في أداء اقتصادي كلي أفضل وإنتاجية أكبر واستخدام أتم.
معايير استقلالية البنوك المركزية
تواجه الدراسات المعنية باستقلالية البنوك المركزية صعوبة كبيرة خاصة في قياس درجة الاستقلالية، نظرا لأن هذه الأخيرة بطبيعتها لا يمكن قياسها كميا بشكل دقيق لما يحكمها من عوامل تشمل أحكاما قيمية ونسبية، مع ذلك اتفقت معظم الدراسات التي أجريت في موضوع استقلالية البنك المركزي على مجموعة من المعايير التي تحدد على أساسها مدى هذه الاستقلالية(2)، ومن أبرز هذه المعايير:
1-رسم السياسة النقدية.
تختلف الجهة المسؤولة عن وضع وتحديد السياسة النقدية باختلاف درجة الاستقلالية التي يتمتع بها البنك المركزي، ذلك ان البنك المركزي المستقل لديه صلاحيات لوضع وتحديد السياسة النقدية بمقتضى التفويض الذي منحه له القانون بحرية دون ان يتلقى أي تعليمات أو توجيهات من الحكومة. في حين تكون السياسة النقدية في حالات أخرى من مسؤولية الحكومة، حيث تتولى الأخيرة تقريريها وتحديد أهدافها.
2-أهداف البنك المركزي.
يتمتع البنك المركزي باستقلالية أكبر حين يناط له– وفقا للقانون-عدد محدد من الأهداف، ويؤشر إسناد عدد كبير من المهام الى البنك المركزي ضعفاً في الاستقلالية التي يتمتع بها في إدارته للسياسة النقدية. وعلى العكس من ذلك فإن تحديد مهمة البنك المركزي بشكل دقيق، مع التركيز والتأكيد على تحقيق الاستقرار في القيمة الداخلية والخارجية للعملة، يعد من أهم المؤشرات الدالة على استقلالية هذا البنك عن الحكومة.
3-التمثيل الحكومي في إدارة البنك المركزي.
يؤثر تكوين مجالس إدارات البنوك المركزية تأثيرا كبيرا على طبيعة العلاقة بين البنوك والحكومات، ففي بعض الحالات تعد هذه المجالس بمثابة قناة رسمية للحكومة لممارسة تأثيرها بصورة مباشرة على قرارات البنك المركزي. وفي كثير من الدول تقوم الحكومة بتعيين معظم، إن لم يكن كل، أعضاء مجلس إدارة البنك المركزي. الأمر الذي يمكن الحكومة من ممارسة تأثيرها من خلال وجودها المباشر في تلك المجالس. وقد يتمتع ممثلو الحكومة بكافة حقوق بقية الأعضاء بما في ذلك حق التصويت على قرارات البنك المركزي ما يمنحهم قدرة أكبر في التأثير على قرارات البنك وسياساته.
4-حدود البنك المركزي في تمويل الحكومة.
وضعت معظم البلدان قيودا مشددة على إمكانية اقتراض الحكومة من بنوكها المركزية، خشية ان يؤدي الإفراط في الاقتراض الى التضخم. وتمثل هذه القيود أحد المظاهر العامة للاستقلالية التي يتمتع بها البنك المركزي في تحديده وتنفيذه للسياسة النقدية. وقد منعت اتفاقية ماسترخت عام 1993 بصورة قاطعة تمويل عجز الموازنة في الدول الأعضاء عن طريق اللجوء الى الاقتراض من البنك المركزي، وبدأت، بالفعل، الدول الأوربية الموقعة على تلك الاتفاقية تعدل-حديثاً-قوانينها بحيث تضمنها نصوصا تمنع مثل هذا الاقتراض.
5-حرية استخدام الأدوات النقدية.
إن عدم قدرة البنك المركزي على استخدام أدوات السياسة النقدية التي يراها مناسبة، ومن دون حاجة للحصول على موافقة الحكومة، يضعف من استقلالية البنك المركزي. وتتفاوت قدرة البنك المركزي على استخدام أدوات السياسة النقدية بين الدول تفاوتا ملحوظا، ففي البعض منها يتمتع هذا البنك بحرية كبيرة في مجال استخدام تلك الأدوات وفي البعض الآخر يتطلب مجرد تغيير البعض منها-مثل تغيير متطلبات الاحتياطي القانوني على سبيل المثال-الرجوع إلى الحكومة.
6-الاستقلال المالي للبنك المركزي.
يحتل موضوع الاستقلال المالي للبنك المركزي أهمية خاصة في دراسة علاقة هذا البنك بالحكومة ومدى استقلاله عنها، فاشتراط الحصول على موافقة مسبقة من الحكومة على موازنة البنك المركزي قد يشكل في حد ذاته وسيلة غير مباشرة تستخدمها الحكومة للتأثير على قرارات البنك المركزي، وذلك عن طريــق الحــد من قدرتــــــــــــه في الحصـــول على الموارد الماليـــة اللازمــة له في حالة عــدم إتباعــه لتوجيهاتها.
7-سلطة الحكومة في تعيين وعزل إدارة البنك المركزي.
في معظم بلدان العالم يتم إسناد مهمة تعيين محافظ البنك المركزي وكبار مسؤوليه الى السلطة التنفيذية (الحكومة) ولا يتعارض ذلك مع استقلالية البنك. ومعنى ذلك ان الاستقلالية لا تتعارض مع قيام الحكومات بتعيين محافظ البنك المركزي وأعضاء الهيئات العليا في هذا البنك. غير انه في الدول التي تتمتع فيها البنوك المركزية بدرجة عالية من الاستقلالية، نجد ان السلطات الحكومية تخضع لقيود ومحددات في مجال تعيين وإقالة محافظي البنوك المركزية، لعل أبرزها:
أ-ضرورة وجود نسبة من التعيينات لا تتولاها الحكومة، وذلك بهدف الحد من نفوذ الحكومة في هذا المجال ومنعها من الانفراد بكافة التعيينات.
ب-تحديد مدة البقاء في المنصب بحيث تكون طويلة نسبيا مقارنة بالدورة الانتخابية، وذلك للتقليل من تأثير الحكومة على مجلس إدارة البنك المركزي.
ج-يشترط الحصول على موافقة البرلمان (السلطة التشريعية في البلد) عند قيام الحكومة بتعيين كبار المسؤولين في البنك المركزي.
المصادر
1- سهير معتوق ، استقلالية البنك المركزي المصري ، مجلة كلية التجارة / جامع حلوان، 2002، ص10.
2- 2 - Thomas F. Cargill and Gerald P. O’Driscoll, Jr, Measuring Central Bank Independence, Policy Implications, and Federal Reserve Independence, University of Nevada, USA, 2012.
3- خلف محمد حمد الجبوري ، دور استقلالية البنوك المركزية في تحقيق أهداف السياسة النقدية مع الإشارة إلى التجربة العراقية في ضوء قانون البنك المركزي العراقي رقم 56 لسنة 2004، مجلة تكريت للعلوم الإدارية، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة تكريت، العدد 23، 2011، ص78.