اعاد الرئيس الأمريكي فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، والتي تعني في مضمونها المقاطعة، وتأكيدها كما كانت قبل كانون الثاني، يناير، عام 2016، بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية، بين إيران والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والمانيا ومشاركة الاتحاد الأوربي، أي خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA التي انتهت اليها المفاوضات في تموز، يوليو، عام 2015. وقد اهتم العراقيون بهذا الحدث وصدرت تصريحات رسمية ومواقف واراء، كما لو ان العقوبات الأمريكية تفرض على إيران لأول مرة بينما كانت موجودة قبل الاتفاقية النووية، وجرى تخفيفها فقط ثم نقضت امريكا مشاركتها في الاتفاق وعادت الى ما كانت عليه. وللتعرف على الآثار المحتملة للعقوبات من الأفضل الاطلاع على حقائق الاقتصاد الإيراني كما هي؛ ثم الاضطراب الأخير في سوق الصرف وتصاعد التضخم، وبعد ذلك مراجعة تاريخ العقوبات الأمريكية التي استهدفت الاقتصاد الإيراني في سياقها الدولي وصولا الى صيغتها الحالية وما يمكن ان يترتب عليها.
1. الموقع والسكان ومجمل الاقتصاد:
تمتد دولة إيران على مساحة 1648 ألف كيلو متر مربع، ولها حدود برية مع العراق وتركيا وأذربيجان وارمينيا وتركمانستان وافغانستان وباكستان وحدود بحرية مع الكويت وقطر والبحرين والسعودية والأمارات العربية وعمان. وسكانها 81 مليون نسمة، 74 بالمائة منهم في الحضر عام 2017. ويمكن وصف الخصائص الديموغرافية في إيران بأنها ملائمة للازدهار الاقتصادي، إذ ينمو السكان بمعدل 1.2 بالمائة سنويا في المدة الأخيرة، وهو منخفض مقارنة بجميع دول المنطقة، ومتوسط حجم الاسرة 3.3 نسمة بينما في العراق 6.6 نسمة، ويشكل النشطون اقتصاديا 32.8 بالمائة من مجموع السكان، اعلى من العراق ومصر ودول نامية أخرى. ونسبة البطالة 12 بالمائة تقريبا وفي فئة الشباب، 15-29 سنة، وصلت البطالة الى 26 بالمائة.
احتياطياتها من النفط الخام 156 مليار برميل، والغاز 33810 مليار متر مكعب. ومن بيانات أحدث نشرة احصائية، لمنظمة البلدان المصدرة للنفط OPEC، انتجت عام 2017، بالمعدل في اليوم من النفط، 3867 الف برميل وصدّرت 3118 الف برميل يوميا. ومن تلك الصادرات 993 الف برميل يوميا منتجات نفطية، وفي نفس الوقت تستورد اقل من 100 الف برميل في اليوم، وطاقة التصفية 1900 الف برميل يوميا تقريبا، وتصدّر غاز طبيعي ايضا بكميات لا تتناسب مع احتياطياتها الكبيرة.
يقدر ناتجها المحلي الاجمالي 447 مليار دولار في العام آنفا، ليكون متوسط الناتج للفرد 5508 دولار، وتعتمد هنا اسعار الصرف الاعتيادية والاسعار المحلية للسلع والخدمات التي تنخفض كثيرا عن نظيراتها في البلدان المتقدمة. ولذا عند تعريف الناتج بدولارات دولية متكافئة القوة الشرائية مع الولايات المتحدة PPP، وحسب بيانات البنك الدولي، يرتفع التقدير الى 1700 مليار دولار عام 2017، ومتوسط الناتج المحلي للفرد 20950 دولار في السنة، أدنى من تركيا حيث يبلغ 27916 دولار للفرد واعلى من المكسيك إذ يقدر 18149 دولار للفرد في عام 2017. وثمة اسباب للتحفظ على حساب الناتج بهذه الطريقة التي تسمى تعادل القوة الشرائية، والارجح انها تنطوي على مبالغة، ومع ذلك تُقدم معلومات مفيدة لمقارنة الحجوم الاقتصادية بين دول متفاوتة التطور. وشهد عام 2017 نموا استثنائيا في الاقتصاد بنسبة تقارب 13 بالمائة، وقفزة في مجموع الصادرات بنسبة 41 بالمائة، وتحَرّك النشاط الاستثماري عام 2018، خاصة في الابنية والإنشاءات، بعد ان تراجع في السنتين السابقتين، مستفيدا من زيادة في رصيد القروض بنسبة 20 بالمائة.
يعرّف خط الفقر للدول في الشريحة العليا متوسطة الدخل بمقدار 5.5 دولارات متكافئة القوة الشرائية PPP بأسعار 2011، وبهذا المقياس كانت نسبة الفقراء في إيران 8 بالمائة من مجموع السكان عام 2013، وفي عام 2014 ارتفعت تلك النسبة الى 10.5 بالمائة لتماثل تركيا، مع ان متوسط الدخل للفرد في الأخيرة اعلى من إيران. وتحسنت مستويات الدخل لأدنى 40 بالمائة من السكان دخلا بعد اعتماد نظام شامل للتحويلات النقدية عام 2010، لكن بعض المكاسب تآكلت نتيجة التضخم وانخفاض القوة الشرائية للتحويلات الى الأسر، البنك الدولي آنفا، آخذين بالاعتبار ان سعة القطاع غير المنظم، كما سيتضح، تضيف صعوبات تعترض سياسات مكافحة الفقر.
2. بنية الإنتاج:
من بيانات النشرة الاقتصادية للبنك المركزي الإيراني أسهم الناتج غير النفطي بنسبة 86.5 بالمائة من مجموع الناتج، والقطاعات غير السلعية بنسبة 56.2 بالمائة منه، أما القطاعات السلعية من غير النفط الخام فقد كانت حصتها من الناتج 30.3 بالمائة. وتبلغ القيمة المضافة في الزراعة 9.8 بالمائة من مجموع الناتج المحلي والصناعة التحويلية 13.1 بالمائة منه، لآخر سنة توفرت عنها بيانات وهي السنة الإيرانية 1396 التي تناظر 2017/ 2018 من الربيع الى الربيع. ورغم مباشرة إيران التصنيع في وقت مبكر بقي تقدمها بطيئا ولم تصنف الى الآن ضمن الدول الناهضة صناعيا. ويتسم نمو الصناعة التحويلية بعدم الاستقرار فلقد تعثر انتاج المنشآت الصناعية الكبيرة واستعاد مستوى عام 2011 في عام 2016 وازداد بنسبة 5.5 بالمائة في السنة الأخيرة.
تشغّل الزراعة 17 بالمائة من مجموع القوى العاملة حسب النظام الاحصائي لمنظمة العمل الدولية. ولازالت الأنشطة الفردية والعائلية، مشاغل الذين يعملون لحسابهم والتي توصف بالعمالة الهشة، تستوعب تقريبا 41 بالمائة من القوى العاملة غير الزراعية، أدنى قليلا من المتوسط العالمي، واعلى من الشرق الاوسط اجمالا وتركيا، ما يدل على ان نطاق الانتاج الكبير، والإنتاجية العالية، لم يصل مدياته الممكنة بعد في إيران. ويظهر من تلك البيانات ان 42 بالمائة من القوى العاملة مستوعبة في القطاع العام وانشطة الإنتاج الكبير المنظم في القطاع الخاص غير الزراعي.
وبلغ انتاج إيران من الكهرباء 312.5 مليار كيلو وات /ساعة في السنة 2017 / 2018 بزيادة 8.1 بالمائة عن السنة السابقة ما يعادل 35.7 الف ميغاواط /ساعة طاقة توليد قائمة مستغلة فعلا أي ان طاقة التوليد المنصوبة قد تقترب من 40 الف ميغاواط/ساعة. وهكذا يتضح ان الاقتصاد الإيراني هو الأقل اعتمادا على النفط والأقرب الى النمط العام في بنيته القطاعية بخلاف الاقتصاد العراقي، على سبيل المثال، وهو أدنى من تركيا في التطور التقني والصادرات غير النفطية. ولا يمكن اغفال الآثار السلبية للتوتر السياسي بين الراديكالية الإيرانية والغرب والضغوط الأمريكية التي وضعت الكثير من الصعوبات عرقلت انتفاع الاقتصاد الإيراني من التكنولوجيات عالية الانتاجية والتطور التقني عموما. ولو تهيأت للاقتصاد الإيراني فرصة في نهضة صناعية بزخم يماثل التجربة الآسيوية لتجاوز الصفة النفطية ربما في عقد ونصف من الزمن.
3. مؤشرات عن الوضع المالي والنقدي:
يمكن وصف الوضع المالي في إيران بالتماسك لأن مصادر الاقتراض الحكومي داخلية في اغلبها، والدين الخارجي 10.9 مليار دولار وهو منخفض واقل من الفائض السنوي للحساب الجاري الخارجي. ويعادل الدين العام بمجموعه حوالي 50 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي وعجز الموازنة العامة دون 3 بالمائة من الناتج. لكن بوادر الازمة تظهر في سوق الصرف والتوقعات السلبية التي اثارتها إعادة العقوبات الاقتصادية الامريكية ما ادى الى زيادة الطلب على العملة الاجنبية بهدف المضاربة، واتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسوق الموازية. ويلاحظ ان زيادة سعر الدولار في السوق الموازية لا تنعكس تماما في اسعار السلع الاستهلاكية، وعند استمرار الازمة من المستبعد الحفاظ على استقلال الاسعار عن حركة سعر الصرف ويكون للأخير الدور الرئيسي في الاستقرار السعري والاقتصادي.
ومهما اشتدت المقاطعة والإجراءات الأمريكية لحصار الاقتصاد الإيراني من المستبعد ان يتراجع الى أدنى مما كان عليه في السنوات 2013-2015. ومن الممكن السيطرة على حركة الاسعار وسعر الصرف ضمن مديات تتكيف معها انشطة الانتاج والاستثمار. لكن المستوى العام للأسعار في إيران بالغ الانخفاض مقارنة بالمستويات الدولية والاقليمية، ولو تخلصت إيران من القيود على تجارتها الخارجية وعلاقاتها المالية الدولية ربما تنتفع كثيرا من المستوى المنخفض للأسعار لديها فهي ميزة تنافسية. وذلك لا ينفي اثر الزيادة الكبيرة في الانفاق الحكومي للسنة المالية 2017 – 2018 في دفع التضخم حيث ارتفع الانفاق الجاري بنسبة 17 بالمائة تقريبا، والرأسمالي بنسبة 91 بالمائة، عن السنة المالية السابقة، البنك الدولي Iran Economic Outlook، وذلك لمعالجة آثار نقص الانفاق الاستثماري الحكومي في السنوات القريبة الماضية.
ازدادت النقود بالمعنى الواسع بمعدل 25 بالمائة سنويا بين عامي 2014 و2017 وهو توسع نقدي كبير، باستبعاد التضخم، ويفوق متطلبات نمو الناتج الحقيقي. ويلاحظ ان اسعار الفائدة على الودائع والقروض كلاهما أكثر من معدلات التضخم ما يكفي لحماية قيمة الأرصدة المودعة والمقرضَة، لكن نسبة الديون المتعثرة مرتفعة في إيران إذ تصل الى 10 بالمائة من مجموع قيمة الديون، وهي بذلك اعلى من المتوسط العالمي لنسبة التعثر في الديون المصرفية التي كانت 3.7 بالمائة، حسب بيانات البنك الدولي. ومن المؤشرات الإيجابية لقطاع المال في إيران ان نسبة الودائع الجارية 10.1 بالمائة من مجموع ودائع الأفراد وبقية القطاع الخاص في الجهاز المصرفي. كما ان العملة في التداول تشكل22.7 بالمائة من النقود بالمعنى الضيق و2.9 بالمائة من النقود بالتعريف الواسع (مجموع السيولة)، وهذه تعد من سمات التطور المالي. وتعادل القروض المصرفية الى القطاع الخاص 73.5 بالمائة من ودائع القطاع الخاص وهو تناسب مقبول. وبلغت نسبة القيمة السوقية للأسهم الى الناتج المحلي الاجمالي 24.2 بالمائة عام 2016، وهي قريبة من تركيا حيث النسبة 26.7 بالمائة، وهذه المستويات من الرسملة دون المتوسط لفئة الدول التي ينتمي اليها البلدان. أما الائتمان الى القطاع الخاص فقد وصل الى 66.1 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي في إيران، وفي تركيا 66.5 بالمائة، وهذه النسب عالية، وتدل في نفس الوقت على المرتكز المصرفي للقطاع المالي في البلدين وثانوية سوق المال.
4. الصادرات والتوازن الخارجي:
من سمات الاقتصاد الإيراني تعرضه لصدمات خارجية وتلك الصدمات من الأسباب الرئيسية لعدم الاتساق بين برامج الأنفاق، والطلب الكلي، من جهة ووفرة العملة الأجنبية، وعرض السلع والخدمات، من جهة اخرى. ولذلك أصبح التضخم المزمن من سمات الاقتصاد الإيراني مع شدة الضغوط في سوق الصرف. والأزمة الأخيرة التي تفاقمت عام 2018 ليست غريبة عن مسار الاقتصاد الإيراني وعلاقاته الدولية المعقدة.
بلغت قيمة صادرات إيران من السلع والخدمات 105 مليار دولار، تقريبا، منها 53 مليار دولار نفطية عام 2017، وبذلك يكون متوسط موارد الصادرات للفرد 1290 دولار وهو منخفض لا يكفي لتمويل المستويات المرغوبة من الاستيرادات للاستهلاك والاستثمار، مع ان الاقتصاد الإيراني قد تكيف للاكتفاء بمثل هذه المقادير من العملة الاجنبية. ونتيجة لذلك التكيف حقق فائضا في الحساب الجاري لميزان المدفوعات الخارجية بنسية 4.1 بالمائة و3.9 بالمائة من الناتج المحلي للسنتين الأخيرتين على التوالي. وبالأرقام المطلقة بينت النشرة الاقتصادية للبنك المركزي الإيراني ان فائض الحساب الجاري 15.8 مليار دولار وفائض الميزان التجاري 22.6 مليار دولار لآخر سنة، وتتجه صادرتها من غير النفط الخام نحو التزايد في السنوات الاخيرة. ولقد أعتاد الاقتصاد الإيراني على تذبذب عنيف في موارد الصادرات: في سنوات حرب الثمانينات؛ وتكرار التغيرات الحادة في اسعار النفط؛ والعقوبات.
لو واصل الاقتصاد الإيراني العمل في البيئة الدولية لما قبل النقض الامريكي للاتفاق النووي لتجاوزت إيران مشكلات مرحلة التعثر التي شهدتها بين عامي 2006 و 2015. وربما تنجح في تنمية الصادرات غير النفطية، وتنتفع من زيادة اسعار النفط ليعمل اقتصادها مع فائض في الحساب الجاري لميزان المدفوعات يعادل 5 بالمائة من الناتج المحلي وتُراكم احتياطيات دولية تضمن لها استدامة اطول. وبموازاة هذا المسار، وبغض النظر عن العقوبات، تبقى الضغوط التضخمية مستمرة بسبب محدودية الطاقة الانتاجية الكلية التي تحتاج لتوسيعها الى زخم مرتفع من الاستثمار، للوصول بها الى المرونة الكافية في الاستجابة لمستويات متزايدة من الطلب. ومن المتوقع ان تضيف العقوبات، واصرار امريكا على محاصرة إيران في صادراتها واستيراداتها، مشاكل اخرى وتوسع فجوات الاختلال في اسواق الصرف والسلع والعمل وتؤخر تنمية البناء التحتي ... ومهما نجحت السياسات الاقتصادية في مقاومة هذه الضغوط يتكبد الاقتصاد الإيراني خسائر تنموية.
لقد كانت العقوبات مفروضة على إيران، حتى بداية عام 2016، من اوربا وامريكا والدول الآسيوية الحليفة ومدعومة بعقوبات من الأمم المتحدة تخص الأنشطة النووية. لكن صادرات النفط الخام الإيرانية لم تنقطع تماما، كما ترغب أمريكا هذه المرة، بل انخفضت كثيرا إذ كانت تلك الصادرات عام 2015 في نطاق 49 بالمائة من حجمها لعام 2017. وتقدر بعض الجهات الانخفاض المحتمل بصادرات النفط الإيرانية، نتيجة لفرض العقوبات الأمريكية بما لا يزيد على 20 بالمائة، وربما تنخفض بنسبة اعلى قد تصل الى 40 بالمائة إذا ما تشددت إدارة الرئيس ترامب في العقوبات الثانوية التي تطال الجهات غير الأمريكية إذا تعاملت مع إيران. وعلى كل حال من المستبعد ان تواجه إيران مقاطعة اقتصادية أقسى من تجربتها للسنوات 2013 – 2015.