في ظل العولمة والترابط الدولي الذي شاع في نهاية القرن المنصرم، تنتقل الازمات التي تحصل في اي بقعة من بقاع العالم إلى اغلب - إن لم تكُن كل- دول العالم بشكل اسرع مما كان يحصل سابقاً، وذلك بفعل اعتماد مبادئ العولمة المتمثلة بإزالة الحدود وحرية الحركة والإنتقال وحياد الدولة، مع الثورة المعلوماتية خصوصاً، في المواصلات والإتصالات؛ التي أدت إلى إختصار الزمن والمكان بشكل هائل حتى اصبح العالم كقرية كونية صغيرة، فما بالك إذا كانت الأزمات مجاورة ومحيطة ببلد كالعراق؟
فكل دولة في زمن العولمة لا يمكن ان تكون بمنأى عن الآثار التي تصيب النظام العالمي سواء كانت إيجابية او سلبية، فعندما تحصل أزمة-على سبيل المثال- في اقصى الشمال ستنتقل آثارها وبشكل سريع إلى أقصى الجنوب؛ وذلك بفعل الترابط الدولي والثورة المعلوماتية. وما يحدد حجم تلك الآثار وعمقها على البلد حجم الاندماج في النظام العالمي فكلما تكون الدولة أكثر ارتباطاً وإندماجاُ كلما يكون تاثرها بالأزمة أكبر حجماً وأعمق تأثيراً والعكس صحيح أي كلما يكون ترابطها وإندماجها أقل بالنظام العالمي يكون تأثرها بالأزمة أقل حجماً وأخف وطأةً.
لم يكُن من العجيب إن يشهد النظام العالمي في الوقت الحاضر تغيرات مفاجئة بعد صعود ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها اللاشرعية عالمياً التي يشير إليها الأديب والصحفي اللبناني أمين معلوف في كتابه "إختلال العالم" حين قال " المشكلة تبقى هي هي حين تكون اصوات المواطنين الامريكيين الذين يمثلون 5% من سكان العالم، أكثر تقريراً لمستقبل الانسانية كلها من أصوات الـ 95% الباقية، وهذا يعني أن ثمة خللاً في الادارة السياسية للكرة الأرضية" ، أضف إلى ذلك إن سجلها التأريخي حافل بالمفاجئات منذ إكتشافها ونشأتها ومروراً بهيمنتها وربما عزلتها أخيراً.
ما يثير الاستغراب حقاً هو أن تؤمن بمبادئ وتخالفها بالسلوك فبالاضافة إلى هيمنتها اللاشرعية عالمياً، فقد أصبحت الولايات المتحدة الامريكية تسير بعكس الإتجاه الذي تتبناه سياسياً واقتصادياً خصوصاً بعد قيادتها للعولمة ووصول ترامب ذو العقلية الأنانية إلى سدة الحكم، وإصداره الكثير من القرارات غير المدروسة محلياً واقليمياً ودولياً بعيون أغلب المحللين، فبعد اداءه اليمين الدستوري رفع شعاره "أمريكا أولاً" ضارباً عرض الحائط كل ما يهم العالم والاتفاقيات المُبرمة مع دول العالم، حيث أقدم على الانسحاب المتوالي من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الايراني واتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ وفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا والصين وإيران وتركيا وأخيراً مطالبة السعودية ودول اخرى في الشرق الاوسط بوصفها غنية بدفع المبالغ السنوية التطويرية لسوريا بعد إن أعلن انهاء وعد الولايات المتحدة بدفعها والمقدرة ب 230مليون دولار.
الآثار
هناك العديد من الآثار التي يتعرض لها الاقتصاد العراقي كنتيجة للعقوبات الامريكية المفروضة على بعض الاقتصادات الاقليمية كالاقتصاد الايراني والاقتصاد التركي وبعض الاقتصادات الدولية كالاقتصاد الصيني والاقتصاد الروسي ويمكن إيجازها بالآتي:
أولاً: تقلص النشاط السياحي وخصوصاً السياحة الدينية، ان فرض العقوبات الامريكية على الاقتصاد الايراني والتركي إدى إلى انخفاض قيمة العملة المحلية لكلا البلدين امام العملات الأخرى ومنها الدولار الامريكي والدينار العراقي، هذا الانخفاض في العملة الايرانية والتركية جعل قيمة الدينار العراقي أعلى ومن ثم ارتفاع تكاليف السفر للعراق أمام مواطني البلدين وبالخصوص الوافدين من الجانب الايراني، لانهم يشكلون النسبة الأكبر من السياحة الدينية في العراق وحجم التدهور في عملتهم كان هو الأكبر ايضاً، فارتفاع تكاليف السفر أمام السواح الايرانيين وتراجع اعدادهم وتراجع العملات الاجنبية ايضاً قد فاقم مشكلة البطالة وانخفاض الدخول ذات العلاقة بالنشاط السياحي وخصوصاً في محافظة كربلاء، لان النشاط السياحي له ترابطات مع العديد من القطاعات كقطاع النقل والمواصلات والاتصالات والخدمات الفندقية غيرها.
ثانياً: ان ارتفاع قيمة الدينار العراقي أمام التومان الايراني والليرة التركية قد أسهم في زيادة الطلب من قبل العراقيين على السياحة الدينية والترفيهية في كلا البلدين، إن زيادة الطلب على السياحة سيولد المزيد من الطلب على الدولار الامريكي وهذا سيؤدي لنتيجتين:
- النتيجة الاولى قد يرتفع سعر صرف الدولار الامريكي وهذا ما يزيد من تكاليف تنمية الاقتصاد العراقي، لان قيمة السلع الراسمالية المستوردة اللازمة لتحقيق التنمية تصبح أكبر في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار.
- والنتيجة الثانية هي انخفاض حجم الاحتياطي الاجنبي لان انخفاض سعر صرف العملات الاقليمية سيزيد من الطلب على منتجات بلدانها، بمعنى آخر ان العراق سيزيد من حجم استيراداته السلعية والخدمية والسياحية من البلدان الاقليمية المعرضة للعقوبات الامريكية خصوصاً إذا ما علمنا إن الجهاز الانتاجي العراقي لايستطيع تلبية الطلب المحلي مع وجود حدود كبيرة مع ايران وتركيا.
ثالثاً: في حال كثفت الولايات المتحدة الامريكة رقابتها والتشديد على تطبيق العقوبات الاقتصادية على الدول الاقليمية وخصوصاً الجانب الايراني وذلك للحد من نفوذها في العراق والمنطقة سينخفض العرض السلعي في السوق العراقية وهذا ما يفضي إلى ارتفاع الاسعار المحلية في العراق فيتضرر اصحاب الدخول المحدودة.
رابعاً: ان فرض العقوبات التجارية على أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الامريكي وهو الاقتصاد الصيني سيؤدي إلى ارتفاع اسعار الصادرات الصينية فتنخفض قدرتها التنافسية وينخفض الطلب عليها ومن ثم انخفاض الطلب على المواد الأولية ومنها واهمها النفط الخام الذي تعد وارداته العمود الفقري للاقتصاد العراقي.
الآفاق
يمكن تصوير الآفاق المستقبلية للاقتصاد على العراقي على شكل ثلاث مشاهد وهي الآتي:
المشهد المتفائل: ارتفاع اسعار النفط مستقبلاً وذلك بفعل الفوضى العالمية في العديد من دول العالم وقيام الولايات المتحدة الامريكية بمهاجمة الجميع وفرض العقوبات على الاعداء والاصدقاء بشكل مباشر وغير مباشر، هذه الفوضى ومهاجمة الجميع قد تؤدي إلى انخفاض المعروض النفطي أو تشكيل تكتلات جديدة لمواجهة السياسة الامريكية، فترتفع أسعار النفط الدولية وهذا ما يخدم الاقتصاد العراقي كونه يعتمد على النفط بشكل كبير جداً لكن تبقى المشكلة ان العراق يصدر أغلب صادراته النفطية التي تقترب 4 مليون برميل يومياً عن طريق مضيق هرمز فإذا ما تم تهديده فعلاً من الجانب الإيراني فما هي الحلول المتوقعة؟
المشهد المتشائم: انخفاض اسعار النفط مستقبلاً، قد لاتستطيع الدول المعرضة للعقوبات الأمريكية من مجابهة السياسة الأمريكية والتخلص من عقوباتها وبالتالي لاتستطيع تنفيذ التهديدات التي وعدت بها كقطع الامدادات النفطية التي تمر عبر مضيق هرمز فيستمر المعروض النفطي كما هو بفعل تعويض النقص الحاصل كنتيجة للعقوبات من دول اخرى وربما تنخفض أسعاره الى الادنى فتنخفض الايرادات المالية التي تحتاجها التنمية الاقتصادية لاعادة اعمار ما دمرته الحروب المتلاحقة.
المشهد المعتدل: قد لا ترتفع الاسعار النفطية ولاتنخفض، وذلك من خلال تلافي المشاكل القائمة بين الولايات المتحدة والدول المعرضة للعقوبات الامريكية فيستمر الوضع على ما هو وربما الى الامام قليلاً مستقبلاً، فتختفي الاثار السلبية التي يتعرض لها العراق بفعل العقوبات شيئاً فشيئاً.
وينبغي لصانع القرار العراقي ان يتعامل مع مستقبل الاقتصاد العراقي وفق أصعب الاحتمالات حتى يتجاوز الآثار المحتمل وقوعها في حال تم حصول المشهد الأول لانه أصعب المشاهد بالنسبة للاقتصاد العراقي على المديين القصير والمتوسط، وحتى وإن لم يتحقق فالعمل وفق هذا المشاهد سيعطي للعراق مساحة أوسع للمناورة والخروج من الموقع الحرج، من خلال الآتي
اولاً: العمل على تنويع منافذ تصدير النفط عبر الدول المجاورة كالسعودية والاردن وتركيا وايران، فأي منفذ من هذه المنافذ يتعرض لخلل ما او أزمة معينة، سيتم اللجوء إلى المنافذ الأخرى لتعويض النقص الناجم عن الخلل او الازمة، هذا على المستوى الجغرافي ومن الممكن تنويع المنافذ عبر نوعية المنافذ كتصدير النفط براً أو بحراً أو جواً، لان تصدير أغلب النفط العراقي عبر منفذ واحد ونوع واحد سيجعل الاقتصاد العراقي في موضع لايحسد عليه .
ثانياً: تنويع التبادل التجاري حتى يتم تلافي الآثار السلبية التي تحصل في حال تركيز الاستيرادات لان الدول التي يعتمد عليها في تلبية الطلب المحلي وتعرضها للعقوبات الاقتصادية ستنعكس بشكل مباشر على العراق ولو بالأمد القصير، فتنويع الاستيرادات سيقلص حجم الاثار السلبية التي تنعكس على الواقع العراقي.
ثالثاً: تنويع تقويم النفط العراقي وعدم الاقتصار على الدولار في تقويمه لان اي أزمة تصيب الاقتصاد العالمي سيتأثر الاقتصاد العراقي كنتيجة لعدم تنويع تقويم النفط العراقي ولذا فتنويع التقويم سيعطي العراق مساحة اكثر للمناورة والتعامل مع الاقتصادات الدولية بحيادية واستقلالية وذاتية ووفقاً للصالح العراقي.