في ظل العولمة والترابط الدولي تنتقل الازمات التي تحصل في اي بقعة من بقاع العالم إلى اغلب -إن لم تكُن كل-دول العالم بشكل اسرع مما كان يحصل سابقاً، وذلك بتزامن اعتماد مبادئ العولمة المتمثلة بإزالة الحدود وحرية الحركة والإنتقال وحياد الدولة، مع الثورة المعلوماتية خصوصاً، في المواصلات والإتصالات؛ التي أدت إلى إختصار الزمن والمكان بشكل هائل حتى اصبح العالم كقرية كونية صغيرة.
كل دولة في زمن العولمة لا يمكن ان تكون بمنأى عن الآثار التي تخلفها الأزمات التي تصيب النظام العالمي، فعندما تحصل أزمة في اقصى الشمال ستنتقل آثارها وبشكل سريع إلى أقصى الجنوب؛ وذلك بفعل الترابط الدولي والاندماج العالمي والثورة المعلوماتية. وما يحدد حجم تلك الآثار وعمقها على البلد حجم الاندماج في النظام العالمي فكلما تكون الدولة أكثر ارتباطاً وإندماجاُ كلما يكون تاثرها بالأزمة أكبر حجماً وأعمق تأثيراً والعكس صحيح أي كلما يكون ترابطها وإندماجها أقل بالنظام العالمي يكون تأثرها بالأزمة أقل حجماً وأخف وطأةً.
مخالفة أمريكا لديمقراطيتها عالمياً
وفي ضوء هذه المقدمة، وبناءاً على خلفية السياسة الأمريكية التي تنتهجها، بقيادة ترامب، مع دول العالم، خصوصاً مع حلفاؤها فضلاً عن المنافسين والأعداء، قد تفرز هذه السياسة أزمة عالمية تضرب النظام العالمي برمته، وذلك بفعل النشوة الأمريكية وإحتلالها مرتبة الصدارة دولياً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً متناسيةً " أن السلطة لاتدوم لأحد" ولو دامت لأحد لدامت للأمم السابقة التي اعتلت عرش قيادة العالم وأقربها تأريخياً المملكة المتحدة(بريطانيا "العظمى") التي لقبت في حينها " المملكة التي لا تغيب عنها الشمس"، ومن ثم لا تستطيع امريكا من الحصول على السلطة لان هذه الأخيرة ببساطة دامت لبريطانيا! لكن في الحقيقة لم يكُن هذا هو الواقع، إذ إن امريكا أنهت الادارة البريطانية على العالم كرهاً وصعدت محلها وفرضت نفسها على العالم كرهاً أيضاً منذ بدايتها وصولاً لقيادة ترامب في الوقت الحاضر، هذا ما يشير لوجود اختلال جوهري في إدارة العالم. وبهذا الاكراه فهي فاقدة للشرعية العالمية في ضوء ديمقراطيتها، فلماذا أصوات المواطنين الامريكيين الذين يمثلون 5% من سكان العالم، أكثر تقريراً لمستقبل الانسانية كلها من اصوات ال 95% الباقية؟! وهذا ما يعني ثمة خللاً في الادارة السياسية للكرة الارضية .
المصلحية الانانية...أمريكا أولاً
وبعد فوز ترامب بالرئاسة الامريكية وقيادة العالم اللاشرعية أخذت الفوضى تدب في جسد العالم بشكل سريع، وذلك بفعل عقليته المصلحية الأنانية وليس المصلحية التشاركية مع جميع الأصدقاء، وأبرز ما يدلل على عقليته المصلحية الأنانية هو شعاره الذي رفعه "أمريكا أولاً" بعد اداءه اليمين الدستوري ضارباً عرض الحائط كل ما يهم العالم والاتفاقيات المُبرمة مع دول العالم، حيث أقدم على الانسحاب المتوالي من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الايراني واتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ وفرض العقوبات الاقتصادية على إيران وتركيا وأخيراً مطالبة السعودية ودول اخرى في الشرق الاوسط بوصفها غنية بدفع المبالغ السنوية التطويرية لسوريا بعد إن أعلن انهاء وعد الولايات المتحدة بدفعها والمفدرة ب 230مليون دينار.
ولا يستبعد إن التفرد بالسلطة وإدارة العالم اللاشرعية وممارسة السياسات العدوانية من قبل الولايات المتحدة الامريكية تجاه الآخرين أصدقاء ومنافسين واعداء، قد يؤدي إلى قلب الطاولة على الولايات المتحدة لان مهاجمة الجميع سيخلق تحالف مُضاد أو على أقل تقدير تحالف موازي او منافس يعمل عالمياً ويمارس تاثيراً كبيراً وجذرياً وربما تكون نتيجته مروعة بالنسبة للولايات المتحدة وذلك لان هدف ذلك التحالف هو كسر الطوق الدولاري المفروض على دول التحالف وعلى العالم برمته منذ سبعينات القرن الماضي والذي جعل جميع الاقتصادات المتعاملة بالدولار متأثرة بقيمته والازمات التي تصيب الاقتصاد الامريكي، ولذا هي تعمل جاهدةً للتخلص من هذا الطوق.
أبرز مؤشرات الهيمنة الامريكية
1- هيمنة الدولار، وما يدلل على هيمنة الدولار الامريكي على الاقتصاد العالمي عدة مؤشرات وأهما ارتفاع حجم التبادلات التجارية العالمية بالدولار الامريكي وارتفاع حصة الدولار الامريكي من الاحتياطي الاجنبي لدى غالبية دول العالم، إذ يمثل حوالي 44% من عملات التجارة العالمية وأكثر من 65% من عملات الاحتياطي العالمي في عام 2014 ، واهم الدول التي لديها احتياطي دولاري هي روسيا وسويسرا وكوريا والهند والبرازيل واليابان والصين التي تمتلك لوحدها ما تتراوح قيمته 3-3.5 تريليون دولار امريكي.
2- إضافة إلى هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، لجوء الولايات المتحدة الأمريكية إلى إنتهاك مبدأ السيادة والاستقلال للدول الأخرى التي تتعارض معها سياسياً واقتصادياً حتى ولو كانت حليفةً لها، وذلك من خلال ممارسة العقوبات الاقتصادية عليها، رافضةً الوساطات الجانبية للحلفاء الآخرين من أجل حلحلة الأوضاع سبب الأزمة، وبهذه التصلب وعدم المرونة تجعل الحلفاء يبتعدون عنها شيئاً فشيئاً والبحث عن حلفاء جُدد يكونوا أكثر مرونة منها ويعملون على تقوية العلاقات الاقتصادية بشكل مستقل عن اكبر اقتصاد عالمياً مع الحفاظ على الاستقلال والسيادة الوطنية لكل طرف من اطراف التحالف الجديد وحفظ ماء الوجه الذي كان يراق مع امريكا، وبهذا التعاون ووحدة الهدف سيأخذون موقع الصدارة في إدارة العالم.
3- زد على عدم اخذ الولايات المتحدة حلفاءها بعين الاعتبار في الوساطات وغيرها، قيامها بفرض عقوبات على دول معينة فيها الكثير من الاستثمارات الاوربية والتي تعني بشكل وآخر محاربة الاقتصادات الحليفة لها من أورباً، فضلاً عن معاقبة المنافسين والأعداء لها كالصين وروسيا مثلاً، وهذا ما يشجع حلفاء الأمريكان(الذين لاتحترمهم امريكا) والمنافسين لها على الدخول بشكل مباشر في تكوين تحالفات ومع الاعداء بشكل غير مباشر، وذلك من اجل ضمان الاحترام المتبادل للشركاء والمساهمة الفاعلة في أدارة العالم مستقبلاً مهما طالت المدة الزمنية.
فالعديد من الدولة لديها امتعاض من هذهِ الهيمنه أي هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي وخصوصاً الدول التي تمتلك احتياطيات كبيرة منه في بنوكها المركزية ولهذا فهي تعمل على تكوين تحالفات اقتصادية تهدف لإزالة الهيمنة الدولارية ومشاركة الدول ذات الاقتصادات المتقدمة في ادارة العالم اقتصاداً وبعيداً عن الازمات التي تصيب الدولار الامريكي واقتصاده لانه وكما ذكرنا في المقدمة ان كل دولة في زمن العولمة لا يمكن ان تكون بمنأى عن الآثار التي تخلفها الأزمات التي تصيب النظام العالمي، فعندما تحصل أزمة في اقصى الشمال ستنتقل آثارها وبشكل سريع إلى أقصى الجنوب؛ وذلك بفعل الترابط الدولي والاندماج العالمي والثورة المعلوماتية.
ومن أبرز هذه التحالفات هو منظمة بريكس الذي يتكون من اكبر الاقتصادات الصاعدة وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، ورغبة تركيا بالانضمام لهذا المنظمة مؤخراً، ولانستبعد عن أعلان رغبة دول اخرى عن رغبتها بالانظمام لهذه المنظمة أو غيرها من المنظمات والتحالفات التي قد تتشكل لاحقاً، التي تبتعد عن الولايات المتحدة وذلك من اجل الحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، لانه واضح للعيان إن امريكا اصبحت تلعب على المكشوف ولاتراعي أي شيء سوى مصلحتها دون الأخذ بعين الاعتبار إن الحوار والمشاركة لها دور كبير في ترميم وإصلاح إدارة النظام العالمي سياسياً واقتصادياً.
أبرز دلالات الأزمة
أبرز دلالات بوادر الأزمة العالمية هو الوضع المرتبك وشيوع الفوضى عالمياً حيث نلاحظ هناك العديد من الاحداث العالمية سياسياً واقتصادياً حصلت عندما تبوأ ترامب دفة الحكم أمريكياً وعالمياً، ومنها أزمة أمريكا مع كندا والمكسيك بخصوص التجارة، وأمريكا والصين وروسيا بخصوص الاقتصاد وإدارة العالم، وأمريكا وايران بخصوص الملف النووي، وأمريكا وتركيا بخصوص التبعية والاستقلال، وأمريكا والسعودية بخصوص الدفعات السنوية التطويرية لسوريا ، وأزمات اقليمية ودولية مثل الأزمة الخليجية بين جبهة السعودية والامارات والبحرين ومصر وجبهة قطر، وأزمة كندا والسعودية، وأزمة الخليج وأيران، والأزمة المتعددة الأطرف وهي الأزمة السورية وغيرها.
الدلالة الاخرى هو بداية الدول الصاعدة بتخفيض حصة الدولار من احتياطاتها الاجنبية سواء بشكل علني مثل روسيا أو بشكل سري كالصين، وهذا ما اشارت إليه بعض وسائل الاعلام، وذلك للتخلص من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي ومشاركة روسيا في إدارة العالم كما كانت سابقاً حين تزعمت الاتحاد السوفيتي. أما الصين فهي لاتستطيع ان تقلص حصة الدولار بشكل كبير ومفاجئ وعلني ، إذ إن تقليص حصة الدولار بشكل كبير ومفاجئ وعلني تعني زيادة حجم المعروض من الدولار ومن ثم انخفاض سعره وهذا يعني انخفاض كمية الثروة التي تمتلكها الصين بسبب انخفاض قيمتها، وحتى لو أعلنت عن خطتها المرسومه تجاه احتياطاتها الدولارية نحو الانخفاض دون أن تمارس هذا الانخفاض بشكل كبير سيؤدي أيضاً إلى انخفاض قيمة الدولار عالمياً وهذا ما يعني انخفاض قيمة الثروة التي تمتلكها الصين وكل دول العالم ويحصل ما يعرف بـ"الهروب من العملة" ولذا فالصين تحاول تقليل احتياطاتها الدولارية بشكل تدريجي وسري لتلافي خسارة ثروتها.
الدلالة الثالثة لجوء العديد من البلدان الاوربية الحليفة للولايات المتحدة الامريكية الى التقارب مع اعداءها والابتعاد عن امريكا بسبب السياسة التي تنتهجها بقيادة ترامب، وهذا ما سيستتبعه تقارب وتعاون اقتصادي والابتعاد شيئاً فشيئاً عن الاقتصاد الامريكي وعملته وذلك للتخص من هيمنته على الاقتصاد العالمي ومساهمة الدول الصاعدة في إدارة العالم اقتصادياً من خلال التشبيك والوقوف إلى جانب البلدان النامية ومساعدتها على النهوض في واقعها والتخلص من مشكلة التخلف التي تعانيها.
الدلالة الرابعة والتي تتمثل في المشاكل الداخلية التي تعانيها الولايات المتحدة كحجم المديونية التي تضاعف الناتج المحلي الاجمالي وهذا ما يعني إن أمريكا تعيش على اكتاف العالم فهي تقترض لتمول اقتصادها الاستهلاكي وإلا لو كانت تقترض لتمول اقتصادها الانتاجي لاستطاعت ان تفي بإلتزاماتها المالية دون الوصول لهذه المرحلة الخطرة من المديونية، يرافق ذلك إنها تعتمد على العالم النامي بشكل كبير فيما يخص الطاقة فلو استطاعت الدول الصاعدة من إكتساب الدول النامية ستكون الولايات المتحدة الأمريكة في عزلة طاقوية وهذا مايؤثر على الاقتصاد الامريكي بشكل سلبي، ولذلك هناك دعوات من قبل الساسة الامريكان نحو تحقيق استقلال الطاقة ولذلك للحفاظ على الاقتصاد الامريكي من ملف الطاقة الذي قد يستخدم كأداة لمحاربتها كما استخدم في عام 1973/1974.
الدلالة الخامسة هي استجابة بعض عملات الاقتصادات الصاعدة لأزمة الليرة التركية الناجمة عن فرض العقوبات الامريكية، لاسباب سياسية واقتصادية، والتي أثارت مخاوق المستثمرين الاجانب في تركيا، وسحب استثماراتهم وزيادة المعروض من عملتهم في اقتصاداتهم وهذا ما تسبب في انخفاض عملاتهم والتي قد تؤدي إلى أزمة عالمية تصيب النظام العالمي بالركود، وهذا ما تناولته بعض الصحف العالمية عن لسان ال بي بي سي البريطانية مثلاً الى إن أزمة عالمية قد تحدث على أثر ازمة الليرة التركية.
سبيل البقاء في إدارة العالم
فسُنة التأريخ جرت على أن لا يستمر أحد في موقع القيادة العالمية وعليه فأمريكا قد تزول عن قيادة العالم حتى ولو على الأمد البعيد كما زالت بريطانيا والأمم التي سبقتها ولكن أيما دولة لاتريد التفريط بقيادة العالم وتُريد أن تبقى هي المتصدرة للمشهد العالمي فعليها ان تغير من سياستها تجاه الآخرين من سياسة الاقصاء والتهميش إلى سياسة الاحتواء والاستيعاب وتعامل الجميع معاملة الأصدقاء لا معاملة الاعداء والغنيمة مع أخذ الحيطة والحذر بعين الاعتبار، والحفاظ على سيادتهم واستقلالهم وتقديم النصح والرشد لتجاوز العقبات التي تعرقل مسيرتهم والعمل على تحقيق المصالح المشتركة، بهذا الحال سيلتف الجميع حولها ولا يكنون لها العداء لانهم يشعرون ويلتمسون بأن سياساتها أخذت تراعي شعورهم وظروفهم وتقف إلى جانبهم وتحاول مساعدتهم بشكل حقيقي في معالجة مشاكلهم التي يعانون منها، وبهذا ستبقى هي صاحب الادارة للعالم.
المصادر التي الاعتماد عليها
- أمين معلوف، اختلال العالم، ص188.
- فؤاد قاسم الأمير، الدولار ودوره وتأثيره في أسعار الذهب والنفط والعملات الاخرىودور العراق المقبل في تسعير النفط، ص349.