الزيادة السكانية في العراق وعلاقتها بالتنمية

تعد العلاقة بين السكان والتنمية من اكثر العلاقات اشكالية في المجتمعات المعاصرة، من هنا ظهرت اهمية التركيز على الجوانب الديموغرافية للسكان ودمجها مع الجوانب التنموية، لأن السكان فضلا عن كونهم صانعي التنمية والمسؤولين عن إنجاحها، فإن أعداد السكان وتركيبهم  النوعي تشكل عوامل مؤثرة في التنمية. إن الجهات المسؤولة في العهد السابق لم تول إلا اهمية خاصة للسياسات السكانية بالقدر الذي توليه الدول الاخرى، ولم تكن متحمسة للأخذ بمقررات وتوصيات المؤتمرات والندوات الدولية المعنية بالموضوع، اذ كانت تدعم الابقاء على نسبة عالية لنمو السكان بتقديم المحفزات للأسر الولودة وتشجيع الزيجات المبكرة وغيرها من انواع الدعم المادي والمعنوي، ولم يكن هناك ربط للمسألة السكانية بجهود التنمية بغية عدم ترتيب اية التزامات مباشرة او غير مباشرة على العراق، لذا تمت مقاطعة مؤتمر القاهرة للسكان  والتنمية المنعقد في عام 1994 ولم يشارك العراق في اجتماعاته للأسباب المذكورة.

التنمية من جهتها عملية تحول هيكلي شاملة ومستمرة، يرافقها تغيير في أنماط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك وتفترض – بناء على نماذج لأنماط تنمية تاريخية – إنها ذات تأثير على السلوك الاجتماعي والفردي للسكان، ومن بين جملة الآثار المترتبة على عملية التحول تلك، آثار مباشرة وغير مباشرة على نمو السكان ، تركيبه، وتوزيعه، إلا إن الجدل النظري حول العلاقة بين نمو السكان والتنمية لم تحسمه شواهد ودلائل تاريخية قاطعة. فنمو السكان يصبح نتيجة للتنمية وليس سببا لها  إذا ما كان نمو السكان قد حدث بسبب ارتفاع معدل الولادات كنتيجة لارتفاع مستويات الدخول المترتبة على النمو الاقتصادي، فيما يمكن اعتبار السكان عاملا خارجيا في عملية التنمية عندما يكون السبب في نمو السكان هو الانخفاض في معدل الوفيات، طبقا لهذا الفهم يكون الارتباط بين التنمية ومعدلات نمو السكان طرديا وموجبا في مراحل التنمية الأولى وعلى هذا الأساس تفترض الدراسات السكانية  نمطا للتحول الديمغرافي متوافقا مع نمط التحول الاقتصادي والاجتماعي وتؤكد على التمييز بين الأهمية النسبية لعدد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية المحددة لنمط خصوبة معين أو مرتبطة به.

ومرت عملية التحول الديمغرافي  في العراق حتى الآن بمرحلتين: الاولى مرحلة النمو البطيء، وقد مر بها العراق خلال القرن التاسع عشر إذ تميزت بتوالي النكبات والكوارث والأوبئة اذ تعرضت الإمبراطورية العثمانية لموجات متلاحقة من الأوبئة، فقد عاود الطاعون الدَّبلي الظهور في كل عقد حتى خمسينات القرن التاسع عشر في العراق، والثانية، مرحلة نمو السكان السريع وتمتد بين الفترة من عام 1947 حتى الوقت الحاضر وفيها ارتفع حجم السكان في العراق من 4.816 مليون نسمة عام 1947 إلى 32 مليون عام 2014، ومن المتوقع ان يصل حسب تقديرات الأمم المتحدة إلى 48.9 مليون نسمة عام 2025.

هناك من يرى الزيادة السكانية ستساهم في تعزيز التنمية، خاصة الزيادة في نسبة السكان الشباب القادر على العمل، مع توفر المتطلبات اللازمة لهذه التنمية، اذ تساهم الزيادة السكانية في:

1-    إن المشكلة السكانية لا تؤثر على التنمية لأنها ناجمة عن أسباب أخرى، وهي مشكلة مفتعلة أوجدتها المنظمات والوكالات التابعة للدول المهيمنة لإبقاء الدول النامية على تخلفها، ولكن يمكن أن تكون الزيادة السكانية عاملاً ذا تأثير سلبي في المسيرة التنموية، ولكن إذا ما استطاعت عملية الانتاج في المجتمع استيعاب الزيادة السكانية وتأمين مقدرات مشاركتها في دفع عجلة التنمية للأمام، فمن الخطأ أن ننظر لهذه الزيادة على أنها عامل يؤدي إلى زيادة الطلب وزيادة الأعباء على الموارد المتاحة، ومن الأجدر أن ننظر إليها كعامل رئيسي في زيادة قوة العمل وعملية الانتاج.

2-    الزيادة السكانية تتحول إلى عبء حقيقي على التنمية عندما لا يجري استغلال الموارد المتاحة بما فيها قوة العمل بصورة صحيحة ومنطقية، ولكن مع توفر الموارد اللازمة ومتطلبات العمل للسكان، وتوفير الحريات الاقتصادية فان زيادة السكان ستكون عامل دعم للتنمية في البلاد، وإن النمو السكاني قد يكون محفزاً لمعدل النمو الاقتصادي والاجتماعي عندما يترافق مع تغيرات في التركيب النوعي للسكان باتجاه زيادة الأهمية النسبية للفئات القادرة على العمل، أو أن لا تقل نسبة السكان النشطين اقتصاديا عن النصف. 

3-     أثر النمو السكاني على سوق العمل: يزيد النمو السكاني من عرض قوة العمل، اذ ان زيادة نسبة السكان وخاصة من المواحل العمرية المتوسطة، سوف يقود الى توفير يد عاملة قادرة على ادارة الاقتصاد والمشاركة الفاعلة في التنمية، أن النمو السكاني يسهم في زيادة الطلب على الانتاج والتي من شأنها أن تزيد من الانتاجية ويسهم أيضاً في تنظيم فعالية الانتاج بفضل تحسين تقسيم العمل ويؤدي النمو السكاني إلى تخفيض الأعباء العامة للمجتمع بتوزيعها على عدد أكبر من السكان.

4-    الزيادة السكانية تساهم في دعم الامن والاستقرار في البلاد من خلال زيادة نسبة القادرين على حمل السلاح والمدافعين عن البلاد، وضد الجماعات التي تحاول زعزعة استقرار البلاد.

5-    زيادة نسبة السكان مع توفر التعليم العام، والبحث العلمي ستساهم في زيادة الايدي العاملة الفنية والماهرة والقادرة على المساهمة الفاعلة في ادارة المشاريع التنموية التي يحتاجها البلد والتي تتطلب ايدي عاملة فنية.

6-     ان مشاكل التنمية في اغلب البلدان النامية لا يعود الى زيادة السكان وانما الى ، تراكم الديون وخدمتها: فالكثير من دول العالم الثالث لا يكفي كل ما لديها من واردات ودخل قومي لسداد ما هو مترتب عليها من ديون فيسجل ميزانها التجاري عجزاً نتيجة عدم  المقدرة على دفع تلك الديون التي تأخذ شكل فوائد وأقساط، وتدهور التبادل الدولي حيث تصدر هذه البلدان المواد الخام بأسعار زهيدة جداً لتستوردها مواد مصنعة بأسعار تفوق الخيال، والخسائر الناجمة عن طريق تحويل أموالها للخارج بواسطة الشركات الأجنبية العاملة في هذه البلدان وبالعملات الصعبة،  هجرة الأدمغة والكفاءات العلمية، واخيرا أثر العوامل الداخلية في البلدان نفسها التي تكرس التخلف وتعيد إنتاجه، كالنفقات الغذائية والعسكرية والمصاريف الباهظة على السلع الاستهلاكية.

7-    إن الهبة الديمغرافية لا تقتصر على دور السكان في قوة العمل ذلك إنها تنطوي على آليات داعمة للنمو الاقتصادي تتأتى أساسا من انخفاض أعداد المُعالين في المجتمع وأثره على ارتفاع الدخول، وانخفاض الاحتياجات الاستهلاكية (للتعليم والصحة بالذات) وهو ما يعمل على رفع الميل للادخار.

 رغم ان بعضهم يرى ان الزيادة السكان عامل مهم في الدولة الا ان البعض الاخر يرى إن ثمة حاجة ماسة لاتخاذ تدابير وصياغة سياسات سكانية ذات أهداف واضحة وبرنامج تنفيذي  قابل للتطبيق، لا سيما وان هناك حراكا سكانياً وتغيراً كبيراً في البيئة الاقتصادية والاجتماعية في العراق، كما أن خطط واستراتيجيات العراق في المجال التنموي والاقتصادي والاجتماعي لا بد وان تتأثر بشكل جوهري بالعامل السكاني لا سيما في قدرات الاقتصاد العراقي لاستيعاب القوى البشرية المتنامية والضغط الخدماتي الناجم عن الزيادة السكانية والتغير في التركيب العمري وانعكاساتهما على قدرات قطاعات التعليم والصحة والإسكان في توفير سبل الرفاه اللازمة لتمتع السكان بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لهذا يؤثر عامل زيادة السكان على التنمية من عدة نواحي منها:

1-    اثر العامل السكاني على خطط التنمية وتفاعلاتهما: ان قضايا التحول الديمغرافي، وانعكاسات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي ستقود الى تعثر التقدم نحو تحقيق أهداف الالفية الثالثة للتنمية، وبالذات الأهداف الخاصة بتعميم خدمات الصحة الإنجابية والتعليم والتغذية، علاوة على علاقته بتوسيع فرص العمل والقضاء على الفقر ومواجهة تحديات البيئة.

2-    ان هيكل السكان في العراق قد ورث كغيره من الدول العربية مشاكل التركيب العمري ونسب الإعالة  والزيادة الواضحة في أعداد النساء في سن الإنجاب  وارتفاع نسبة شريحة الشباب والمراهقين ما بين 10-24 سنة وحاجاتها ومستوى تعرضها لمخاطر الأمراض المعدية ومنها الأمراض المنقولة جنسيا ، وتيارات الهجرة الداخلية والخارجية للسكان .

3-    على الرغم من أن الاندفاع نحو برامج الإصلاح الاقتصادي وآليات السوق كان وما يزال يقوم على فرضية تحريك وحشد الإمكانات والطاقات المتاحة والممكنة وتوظيفها على النحو الذي يعجل ببلوغ غايات التنمية المستدامة وعلى توسيع خيارات الناس والمشاركة في التواؤم مع المتطلبات البيئية والاجتماعية والصحية والثقافية،  إلا أن علامات الإخفاق في ميادين سكانية واجتماعية متعددة صاحبت التوجه نحو تنفيذ أنشطة تلك البرامج لم يتحقق لها المردود المطلوب في معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي وفي نوعية الحياة السكانية، وبالأخص عند الفئات الفقيرة، حيث واصلت البطالة في الارتفاع سيما بين الشباب والنساء، كما ارتفعت تكاليف المعيشة لغالبية السكان، وانخفض الإنفاق الحكومي على خدمات الصحة العامة والصحة الإنجابية والتعليم، واتسعت دائرة الاختلالات والفجوات بين المناطق والمجموعات والأفراد. 

4-    مظاهر اللا مساواة في التمتع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لا سيما اللا مساواة على الصعيد الجغرافي والنوع الاجتماعي، الحق في الصحة وفي التعليم وفي الحماية الاجتماعية، وهي حقوق نص عليها دستور العراق الجديد عام 2005،  فمن الضروري ردم الهوة بين الواقع وبين تطلعات السكان واهداف الدولة بضمان الحياة الكريمة واللائقة لهم، وتؤكد التحليلات على أهمية الوعي بمؤشرات الإنجاب ومراقبتها باعتبارها متغيرات مرتبطة بمستويات الخصوبة والوفيات للحصول على فهم صحيح يفيد عند رسم سياسات السكان والصحة والسياسات الاجتماعية، الى جانب الاوضاع الديمغرافية، ان وجود مظاهر البطالة والفقر واللا مساواة وتهميش فئات من السكان وعدم ايلاء الشباب اهتماما خاصا وترى انها  انعكاس لغياب سياسة سكانية رشيدة.

5-    أثر النمو السكاني على الادخار والاستثمار: تؤدي زيادة عدد السكان إلى انخفاض الادخار والاستثمار وبالتالي انخفاض معدل النمو الاقتصادي والدخل الفردي، وتستند هذه الآراء إلى معدلات الخصوبة والمواليد، حيث أن التزايد السكاني يؤثر سلباً على عملية خلق التراكمات اللازمة لعملية التنمية، فارتفاع عدد السكان يؤدي إلى ارتفاع عدد المواليد في المجتمع، وهذا يؤدي بدوره إلى انخفاض نصيب الفرد الواحد مما يضعف مقدرة الأسر والافراد على الادخار وانخفاض مستوى دخل الأسرة بالمقارنة مع عدد افرادها يجعلها تكاد لا تفي باحتياجات هؤلاء الافراد من المادة الاستهلاكية الأساسية ويمنعهم من أي مدخرات ذات معنى وعندما يكون حجم الادخار في المجتمع  ضعيفاً فسيكون بالتالي حجم الاستثمار ضعيفاً أيضاً والنتيجة ستضعف قدرة المجتمع على المشاريع الاستثمارية والتي ستعرقل عملية التنمية الاقتصادية.

6-    أثر النمو السكاني على الاستهلاك: يؤدي إلى زيادة الطلب الاجمالي على السلع بنوعيها الضروري والكمالي مقابل محدودية الدخل وزيادة الحاجات مما يشكل ضغوطاً على المسيرة التنموية للمجتمع.

7-    لقد تزامن زخم الوضع الديمغرافي المتمثل بارتفاع معدلات الخصوبة والحراك السكاني مع ولوج مرحلة الهبة الديمغرافية ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والبيئية خلال الثمانينات والتسعينات وانعكاساتها السلبية على خطط التنمية على البعد النوعي للسكان وخصائصه، وسيبقى مصدر قلق متزايد، واصبحت تشكل قوة الدفع الأساسية لتغيير الموقف الرسمي تجاه تبني السياسات والبرامج الوطنية للسكان الواسعة النطاق والمتكاملة مع استراتيجيات التنمية المستدامة. 

8-    أن التباطؤ في التحول الديمغرافي، وانعكاسات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي يشكل سببا رئيسا لتعثر التقدم نحو تحقيق أهداف الالفية الثالثة للتنمية، وبالذات الأهداف الخاصة بتعميم خدمات الصحة الإنجابية والتعليم والتغذية.  علاوة على ذلك، فإنه لصناع القرار المعنيين بتوسيع فرص العمل والقضاء على الفقر ًسيبقى إلى حين هاجسا ومواجهة تحديات البيئة.                                  

إن الاندفاع نحو برامج الإصلاح الاقتصادي وآليات السوق كان وما يزال يقوم على فرضية تحريك وحشد الإمكانات والطاقات المتاحة والممكنة وتوظيفها على النحو الذي يعجل ببلوغ غايات التنمية المستدامة وعلى توسيع خيارات الناس والمشاركة في التواؤم مع المتطلبات البيئية والاجتماعية والصحية والثقافية، إلا أن علامات الإخفاق في ميادين سكانية واجتماعية متعددة صاحبت التوجه نحو تنفيذ أنشطة تلك البرامج، ولم يتحقق لها المردود المطلوب في معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي وفي نوعية الحياة السكانية، وبالأخص عند الفئات الفقيرة، حيث واصلت البطالة في الارتفاع سيما بين الشباب والنساء، كما ارتفعت تكاليف المعيشة لغالبية السكان، وانخفض الإنفاق الحكومي على خدمات الصحة العامة والصحة الإنجابية والتعليم، واتسعت دائرة الاختلالات والفجوات بين المناطق والمجموعات والأفراد، علاوة على ذلك، فإن حراجة اوضاع الموازنة العامة للدولة والتزايد في الإنفاق على القطاع الامني وكذلك النزاعات السياسية وتبعات الحروب،  للقلق حول امكانية إحراز مكتسبات إضافية في المجالات التعليمية والصحية ًتشكل مصدرا والثقافية،  فبالرغم من الزيادة في تغطية التعليم الابتدائي ليس في اجندة الدولة التوسع نحو التعليم الأساسي، كما أن معدلات التسرب في التعليم الثانوي ما زالت عالية، وبالذات بين الفتيات وسكان الريف  كذلك معدلات الأمية بين الكبار وبالذات بين الإناث،  أما نسبة الإنفاق على الصحة، فهي تبدو متواضعة عند مقارنتها مع الإنفاق على التعليم أو الإنفاق العسكري،  كما أنها تبدو قاصرة أمام الاحتياجات المتزايدة والمتولدة عن التزامات الدولة للوصول لهدف الصحة للجميع ولتوسيع خدمات الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة وبنوعية جيدة،  ولا شك أن متطلبات تحقيق الصحة الإنجابية بما فيها تنظيم الأسرة تأخذ مكان الصدارة في قائمة تلك الاحتياجات.

 

خلاصة القول:  أن مواجهة المشكلة السكانية عن طريق رفع الدخل أو عن طريق تغيير العادات والتقاليد أمر حيوي ويتعين أن تحتل برامج تنظيم الأسرة الأهمية العظمى في ظل خطط التنمية، ولكن حل المشكلة السكانية يتطلب عدة خطوات أهمها التحرر الاقتصادي، ويعني ذلك نفي التبعية الاقتصادية بكافة أشكالها، سواء التبعية النقدية لنظام النقد الدولي أو التبعية التكنولوجية أو مشاركة رأس المال الأجنبي أو عدم السيطرة على النظام المصرفي المحلي، كذلك من خلال زيادة التعليم وفتح مجالات واسعة لمراكز الصناعة والزراعة وتطويرها.   

التعليقات
تغيير الرمز