التقارب السعودي مع العراق وأثره على العلاقات العراقية مع إيران

بعد تولي الملك (سلمان بن عبد العزيز) لمقاليد الحكم في السعودية، بدا نوع من الانفتاح بين العراق والسعودية، اذ تم تعيين اول سفير للملكة في العراق وهو (ثامر السبهان) في 14 كانون الثاني 2016، بعد قطيعة دامت لأكثر من 25 عاما، ورغم تحسن العلاقات بين البلدين، الا ان تصريحات السفير وتدخله في الشأن العراقي قادت الى مطالبات بتغييره، وقد تم استبداله بعد ثمان اشهر على توليه المنصب وتعيين (عبد العزيز الشمري)، قائما بالأعمال في سفارة السعودية لدى العراق، وهي خطوة اعتبرها المحللون والاعلام تخفيضا لمستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين. 

ولم يوقف تقدم العلاقات بين الدولتين، فقد زار وزير الخارجية السعودي (عادل الجبير ) العراق، تلتها زيارة رئيس الوزراء السيد (حيدر العبادي) السعودية بدعوة من الملك سلمان في 19 حزيران 2017، وكان الهدف من الزيارة حسب ما ذكر هو تعزيز التعاون وتطوير العلاقات بين الدولتين في جميع المجالات الاقتصادية، والتجارية، والحدود، والقطاع الخاص، ورجال الأعمال، وتبادل المصالح، وغيرها، ثم تلتها بعد شهر زيارة وزير الداخلية السيد (قاسم الاعرجي)، وهي بدعوى من السعودية ايضا، وتم التطرق في  الزيارة حسب المصادر الى تبادل المعلومات الاستخبارية ومكافحة الإرهاب، ولم تتوقف على الزيارات الرسمية بل تبعتها زيارات شخصيات عراقية اخرى بطلب من السعودية ايضا، والهدف منها هو زيادة التواصل مع المملكة ومد جسور من الثقة بين الدولتين، وآخر الزوار العراقيين كان وزير النفط (جبار اللعيبي)، الذي التقى ولي العهد (محمد بن سلمان) في جدة وبحث معه تنسيق السياسات البترولية وفتح المنافذ البرية وتسيير رحلات مباشرة وتشجيع التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة.

ان تاريخ العلاقات العراقية السعودية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 طبعت بطابع التوتر وعدم الاستقرار، والاسباب عديدة اهمها هو التنافس على النفوذ الاقليمي ولعب دور قيادي للدول العربية، اذ كانت تتنافس على هذا الدور ثلاث دول هي العراق ومصر والسعودية، لم تشهد العلاقات من تحسن الا في فترة الحرب العراقية – الايرانية 1980-1988، اذ كانت السعودية من الداعمين الرئيسيين للعراق، الا ان هذه العلاقة لم تستمر، فمع نهاية الحرب بين ايران والعراق بدا العداء بين العراق ومحيطه الخليجي، وقد كانت لسياسات دول الخليج الاقتصادية، وخاصة انخفاض اسعار النفط، دورا في احتلال العراق للكويت عام 1990، عندها لم تتوقف سياسة التآمر السعودية ضد العراق، ابتدأً من التعاون مع امريكا في ضرب العراق وتدميره البنى التحتية وتدمير الجيش العراقي الذي كان احد اسباب العداء الخليجي للعراق، لان خروج العراق من حرب ثمان سنوات بقوة عسكرية كبيرة تفوق حاجة العراق، وتشكل خطرا عليهم قاد الى تعاون السعودية مع امريكا في حصار العراق، ثم احتلاله عام 2003، عندها بدات السعودية تبحث عن دور لها وموطئ قدم في العراق، وعلى البحث عن دور اقليمي وعربي خاص لها، خاصة بعد خروج مصر من المعادلة بعد ثورات الربيع العربي 2011، وخروج امريكا من العراق بنفس العام.

لقد وقفت السعودية منذ البداية ضد تشكيل أي حكومة عراقية ذات صبغة شيعية، وقد ظهر ذلك واضحا من خلال وسائل الاعلام وسياسة التحريض المذهبي بدعم حركات الارهاب المختلفة وتمويلها بالسلاح والمال، وادعت ان الحكومات العراقية حكومات تابعة لإيران، وان هناك اضطهاد للمكونات الاخرى، ففي الوقت الذي اتبعت فيه السعودية اساليب العنف وعدم الارهاب في العراق للوصول لأهدافها، كانت ايران قد ركزت نفوذها بشكل يفوق كل الحسابات الامريكية والخليجية، من خلال دعم الحكومة العراقية بعد عام 2003، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، واصبحت هذه اذرع قوية للنفوذ الايراني، وقد دعمت ايران تعاونها الاقتصادي مع العراق بفتح العديد من الشركات والمصانع، وزيادة الصادرات المختلفة، حتى اصبح الميزان التجاري بعشرات المليارات من الدولارات، وكان لموقفها في دعم العراق عام 2014، بعد اجتياح تنظيم داعش الارهابي لأكثر من ثلث العراق اثر كبير في تعزيز دزرها ونفوذها في هذا البلد، كما ان انهاء مشكلة البرنامج النووي الايراني مع الغرب وامريكا بعقد الاتفاق النووي بينها وبين الدول 5+1 والامم المتحدة عام 2015، ورفع بعض العقوبات الدولية عنها كان له اثر واضح على توسع نفوذها بشكل اكبر ليس في العراق فحسب بل امتد الى اليمن وسوريا والخليج.

تنوعت القراءات والتحليلات لأسباب وأهداف تطور العلاقات بين البلدين والزيارات التي قام بها المسؤولين من كلا الجانبين، والانفتاح السعودي الغير مسبوق نحو العراق، واهم الاسباب والاهداف هي: 

1- ان انفتاح السعودية على العراق جاء مع بدء المرحلة الاخيرة من الحرب على داعش الارهابية، وفي ظل تحقيق نصر كبير باستعادة مدينة الموصل، وقد تجاوزت المعركة التي يشنها الجيش العراقي على داعش للمرة الاولى حدود العراق لتشمل قصف قواعد الارهابيين في مدينة البو كمال السورية، مما أوحى بدور عراقي في المعركة التالية المتوقعة لتحرير الرقة، وهو ما دفع السعودية الى اللجوء الى الدبلوماسية المرنة مع العراق ومحاولة الوصول لأهدافها من خلال البوابة الرسمية والشعبية في العراق.

2- ان السياسة الخارجية السعودية خاصة والخليجية عامة لا تنطلق من منطلق محلي داخلي وحاجة لمصالح متبادلة او مصلحة وطنية خاصة، او هي سياسة ذات ابعاد استراتيجية ثابتة، بل هي سياسة متغيرة تتأثر بالوضع الاقليمي والدولي، وهي سياسة اغلبها تابعة لدولة كبرى، لهذا فان اغلب التكهنات تنطلق من ان توجه السعودية نحو العراق يحظى بدعم الادارة الاميركية الجديدة التي يبدو أنها خططت لصفحة جديدة مع دول الخليج، بالانفتاح على العراق في مقابل تصعيد امريكا في خطابها حيال إيران.

3- يعد العراق دولة مهمة في كل من العالمين العربي والاسلامي، وان استقرار العراق هو استقرار لكل الشرق الاوسط، فهو ذو امكانيات بشرية واقتصادية وثقافية كبيرة جدا، وهو ما تدركه كل دول المنطقة وهي بحاجة له في مواجهة الاخطار التي تهدد المنطقة، وتقديم العراق نفسه كقوة إقليمية قادرة على أن تكون رقمًا صعبا في معادلات التوازن في ظل أزمة تعصف بمجلس التعاون الخليجي اليوم والتي تطلبت من السعودية أن ترصد الحلفاء عن الاعداء لغرض هذه المواجهة، والحصول على دعم عربي لها.

4- هناك تحديات تواجه العراق بعد استعادت المدن من داعش الارهابي والتي اغلبها مدمرة بالكامل، وهناك حاجة ماسة الى دعم دولي وعربي لإعادة اعمار المدن والبلدات التي دمرت، وتأهيل البنى التحتية لإعادة الخدمات الأساسية تمهيداً لعودة النازحين واللاجئين الى منازلهم والذين يعدون بمئات الالاف، وتحديات استفتاء الاكراد في شمال العراق، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي يعانيها العراق، والتوقعات باستمرار انخفاض اسعار النفط، فان العراق يعول على  دول الخليج، وفي مقدمها السعودية المساهمة في هذه الجهود، والوقوف الى جانبها وبدعم عربي واضح لبغداد في مواجهة التحديات الكبيرة

5- . إعادة خط الأنابيب الاستراتيجي، ناقل النفط العراقي إلى البحر الأحمر. اتفاق سيحقق الكثير على المدى البعيد كون الخط أحد أهم المشاريع الناقلة للبترول والذي أنشئ بأموال عراقية بدءاً من منابع النفط العراقية وصولاً إلى موانئ ينبع السعودية على البحر الأحمر، إضافة إلى إنشاء خزانات عملاقة على الميناء هي ايضا عائدة للعراق الذي قام بسداد مبالغ الإنشاء بالكامل للشركة المنفذة.

6- محاولة السعودية الحصول على دعم دولة تحسب كدولة شيعية في المنطقة وهي العراق، والوقوف معها في سياساتها في المنطقة وفي الداخل السعودي، خاصة وان هناك احداث جارية في القطيف وهدم للمنازل، لهذا فالموقف العراقي مهم لدى المملكة في دعمها والوقوف معها في وجه دول اخرى. 

ان تحسين العلاقات بين العراق والسعودية لا يعني انهاء الدور الايراني في العراق بشكل فوري وسريع، لان هدف الانفتاح هو محاولة بداية لاحتواء الجانب الإيراني في العراق وعملية إعادة إيران تدريجيا إلى الخلف ليس عبر طردها، فليس للسعودية إبعاد إيران من العراق بين ليلة وضحاها ولا حتى على المستوى البعيد، ولأسباب عديده، منها:

1- تشكل إيران فاعلا رئيسيا في تفاعلات الساحة العراقية، وعلى مختلف الأصعدة، اذ ان العلاقات العراقية الايرانية لا تنطلق من منطلق دبلوماسي فقط، بل هناك روابط تاريخية وجغرافية وثقافية بين الدولتين اصبحت أكثر قوة بعد 2003، وان أي حكومة عراقية جديدة لا يمكنها من تجاهل هذا المتغير، وهناك دعم شعبي واسع لتعزيز العلاقة مع إيران.

2- سياسيا، نجحت طهران بحكم علاقاتها القوية مع بعض القوى السياسية داخل العراق في فرض هيمنتها على القرار السياسي العراقي، حتى وصل الامر الى تدخل إيران في اختيار الحكومات العراقية، أما على مستوى السياسة الخارجية، فيلاحظ تأثير طهران على التوجهات العراقية فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية، وهو ما يتضح من الدعم العراقي للنظام في سوريا، والحوثيين في اليمن.

3- اقتصاديا، تلعب إيران دورا محوريا في الاقتصاد العراقي، حيث سعت إلى التغلغل في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية، وإغراق الأسواق العراقية بمنتجات وسلع إيرانية ، حتى اصبحت إيران الشريك التجاري الرئيسي للعراق، إذ وصلت الاستثمارات الإيرانية في العراق إلى عشرات المليار من الدولار، فضلا عن تمكن إيران من التغلغل الاقتصادي في كردستان العراق، وذلك بتوسيع العلاقات الاقتصادية مع الأكراد، وازدهار التجارة عبر الحدود؛ حيث تم إبرام عشرات العقود مع شركات إيرانية، خاصة في أعمال الإنشاء والاتصالات بإقليم كردستان.

4- امنيا، وكان العراق وإيران قد وقعا في ٢٣ تموز 2017، على اتفاقية التعاون العسكري لمكافحة الارهاب والتطرف، وهذا يمثل من وجهة نظر الباحثين ضربة لجهود السعودية الرامية الى مواجهة النفوذ الايراني في الشرق الأوسط. كما أعلنت وزارة الخارجية الايرانية أن العلاقات الإيرانية العراقية هي مسألة ثنائية لا علاقة لها بأي حكومة أخرى، ووجهت الرسالة الى كل من اعضاء مجلس التعاون الخليجي والى المملكة العربية السعودية بشكل خاص.

5- تأخر السعودية بالانفتاح على جارها العراق، وتعزيز العلاقات الثنائية معه، فأن زيارة مسؤولين عراقيين شيعة أو قادة تيارات سياسية ودينية إلى السعودية ليست جديدة، فلقد سبق أن زار عدد من رؤساء الكتل والاحزاب العراقية الشيعة السعودية إبان فترة حكم الملك السعودي الراحل (عبد الله بن عبد العزيز) عام 2006، غير أن تلك الزيارات وقتها لم تتمكن من تحسين الأجواء بين العراق والسعودية، ولا بين قادة تلك التيارات والرياض، ورغم أن السعودية أعلنت إعادة افتتاح سفارتها في بغداد عام 2015 وتعيين سفيرا لها في بغداد، فانه سرعان ما بدأت عليه حملة واسعة النطاق من قبل الساسة والعراقيين الشيعة أدت بعد وقت إلى تغييره، على عكس العلاقة مع ايران التي تتسم بالتأييد الرسمي والشعبي.

6- السياسة الانتهازية التي تتبعها الدول العربية عموما ودول الخليج خصوصا، وان أي تحسن للعلاقات بين ايران وهذه الدول سينعكس سلبا على العراق، وما تجربة حرب الثمان سنوات بين العراق وايران، وما قدمه العراق من خسائر بشرية ومادية سببها الرئيسي دول الخليج الا نموذج على هذه العلاقة، اذ مع او خلاف عراقي معها تم نبذ العراق وفرض الحصار على شعبه، ومن ثم المساعدة على احتلاله وتدميره، وهنا متى ما تحقق  تحسن في العلاقات بينها وبين ايران، فان علاقاتها مع العراق تصبح هامشية ومتذبذبة، لهذا فالسياسة العراقية واعية ومدركة لهذا الامر، وهي غير مستعدة للتنازل عن علاقاتها مع ايران مقابل وعود غير اكيدة التحقيق مستقبلا، وهي تحاول ايجاد توازن في علاقاتها مع الدولتين. 

7- مهما بلغ تطور العلاقات بين السعودية والعراق، فان هناك امور ومواقف عديدة مختلف عليها لا يمكن للدولتين تجاوزها، وبعض هذه المواقف هي سبب الخلاف الايراني السعودي، واهمها الرفض الشعبي (الشيعي) لهذه العلاقة، واختلاف الفكر الديني بين الدولتين، اذ يعد الفكر الوهابي الفكر المحرك للسياسة السعودية خارجيا، وهو الفكر الذي انتج العديد من المجموعات الارهابية التي كان لها الدور البارز في قتل وتهجير ملايين العراقيين، وتدمير البنى التحتية للعراق، كما ان السعودية لا يمكنها ان تقبل بعراق ذات قوة وتأثير اقليمي في المنطقة، لأنه سيكون منافسا لها، لهذا فان التقارب العراقي الايراني تفرضه الظروف الداخلية الاقليمية والدولية، وليس السياسة الخارجية وزيارات المسؤولين العراقيين.   

8- إيران تحاول طرح نفسها أمام العالم الإسلامي بانها مع القضايا العربية والاسلامية، خاصة في مسألة فلسطين ودعم حركات المقاومة الاسلامية، في حين ان السعودية تأتمر بأمر امريكا في قضايا المنطقة، بل اعتبرت بعض فصائل المقاومة حركات ارهابية، اذ دعمت إيران العديد من الدول الاسلامية وحركات المقاومة السنية مثل حماس والجهاد الإسلامي بالمال والسلاح، وهو امر لم تقدم عليه السعودية خلال تاريخها السياسي الطويل. 

خلاصة القول، ان بالعراق في ظرفه الراهن هو بحاجة الى علاقات حسن جوار مع محيطه الإقليمي والدولي، وان السياسة الصحيحة للعراق الان هي تحويل الاعداء الى اصدقاء، او ضمان حيادهم على اقل تقدير، وان دولة مثل السعودية لها ثقل ديني ومالي عالمي، وجارة للعراق، لابد وان تكون له علاقات متميزة ومتوازنة معها. كما ان تنويع المصادر وعدم الاعتماد على دولة واحدة هو الضمان الحقيقي لقوة واستقرار البلد، علينا ان نبني علاقات متوازنة تلبي الطموح، لا علاقات تبعية، العراق كان وسيبقى هو راس الدول العربية، لهذا فان هذا الدور لابد ان يبقى هو الهدف الاعلى للقيادات العراقية.     

التعليقات
تغيير الرمز