دور الإصلاح الاداري في مكافحة الفساد المالي

حلقة نقاشية

تحرير حسين علي حسين

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

آذار-مارس 2024

 

عقد مركز الفرات للتنمية والبحوث الاستراتيجية يوم السبت الموافق للتاسع من آذار-مارس 2024 حلقته النقاشية الشهرية، ضمن نشاطات ملتقى النبأ الأسبوعي، وذلك في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام، وقد حضر الحلقة الأساتذة مدراء المراكز البحثية وعدد من الباحثين والأكاديميين والكتاب، حيث قدم الكاتب حسين علي حسين ورقة بحثية حملت عنوان (دور الاصلاح الاداري في مكافحة الفساد المالي)، وجاء في مضمون هذه الورقة: 

يقول الاقتصادي الأمريكي والباحث في علوم الإدارة "بيتر فردناند دراكر" (Peter Ferdinand Drucker): " لا يوجد بلد متخلف أو بلد متقدم؛ إنَّما توجد إدارة متقدمة وإدارة متخلفة".

في الحقيقة يرتبط نجاح أي نوع من الخطط التنموية بمدى التقدم الذي تحرزه الدولة في إصلاح أجهزتها الإدارية التي يقع على عاتقها تنفيذ تلك الخطط؛ لذا نجد الإصلاح الإداري ضمن الأهداف الرئيسة لكافة دول العالم بحيث يحتل موقعاً مميزاً ضمن قائمة الخطط القومية للدول من منطلق كلما ارتقى عمل الأجهزة الإدارية واقترب من الإتقان والاحتراف، نجحت خطط التنمية وتحقيق النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي.

لذا يمكن القول إنَّ موضوع الإصلاح الإداري من أكثر الموضوعات أهمية.

سوف نقسم الورقة على عدة محاور وهي:

أولا: أهمية الموضوع بصورة عامة 

إن موضوع دور الإصلاح الإداري في مكافحة الفساد المالي له أهمية كبيرة وعديدة. وهنا اذكر بعض النقاط التي تبرز هذه الأهمية:

1- تعزيز الشفافية والمساءلة: يساهم الإصلاح الإداري في تعزيز الشفافية في العمليات الحكومية والمؤسسات المالية، مما يقلل من فرص الفساد.

2- تطوير الهياكل والسياسات: يمكن للإصلاح الإداري تحسين الهياكل الإدارية وتطوير السياسات والإجراءات المالية، مما يقلل من الفجوات التي يمكن أن يستغلها الفاسدون.

3- تعزيز الكفاءة الإدارية: من خلال تحسين الإدارة وتعزيز الكفاءة في استخدام الموارد المالية والبشرية، يمكن للإصلاح الإداري تقليل الهدر والفساد.

4- تعزيز الرقابة والتفتيش: يسهم الإصلاح الإداري في تعزيز الرقابة والتفتيش على الأنشطة المالية.

5- تحسين بيئة الأعمال: يمكن للإصلاح الإداري تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات، حيث يشعر المستثمرون بالثقة في النظام المالي والإداري الذي يتسم بالنزاهة والشفافية.

باختصار، يلعب الإصلاح الإداري دوراً حيوياً في مكافحة الفساد المالي من خلال تعزيز الشفافية، وتطوير الهياكل والسياسات، وتحسين الكفاءة الإدارية، وتعزيز الرقابة والتفتيش، وتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز التنمية الاقتصادية.

ثانيا: تعريف الإصلاح الإداري

عرَّفت الأمم المتحدة الإصلاح الإداري بأنَّه "الاستخدام الأمثل والمدروس للسلطة والنفوذ لتطبيق إجراءات جديدة على نظام إداري ما؛ وذلك من أجل تغيير أهدافه وبيئته وإجراءاته بهدف تطويره لتحقيق أهداف تنموية".

كما عرَّفه مؤتمر الإصلاح الإداري في الدول النامية الذي عقدته الأمم المتحدة في عام 1971 بأنَّه "حصيلة الجهود التي تهدف إلى إدخال تغييرات أساسية في المنظمة الإدارية العامة من خلال إصلاحات على مستوى النظام ككل".

مهما تعددت التعريفات التي تناولت مفهوم الإصلاح الإداري يمكن الوصول إلى اتفاق يقضي بأنَّه جهد جماعي يهدف إلى إحداث تغييرات هيكلية في الجهاز الإداري بما يتناسب مع الحالة الراهنة للبلد من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعي.

مما تقدم يمكننا وضع التعريف التالي للإصلاح: " إنه جهود سياسية إدارية اجتماعية مصممة لإحداث تغيرات في الأنظمة الإدارية العامة وفي المواقع التي كانت تعاني من الخلل ما لتنمية القدرات وإمكانيات الجهاز الإداري بما يؤمن له تحقيق أهدافه بدرجة عالية من الكفاءة والفعالية".

ثالثا: خطوات تنفيذ عملية الإصلاح الإداري

إن تنفيذ عملية الإصلاح الإداري كعملية منهجية لا تختلف عن الخطوات المنهجية العلمية في تناول أي موضوع لكنها هنا قد تختلف بعض الشيء كونها تتطلب قبل كل شيء وجود جهاز تنظيمي خاص يتولى هذا النشاط الهام بهدف تحديد المسؤوليات.

بالإضافة إلى ذلك توجد عدة خطوات تمر بها عملية الإصلاح وهي كالآتي:

- ضرورة توفير الإحساس بالحاجة الماسة التي تستدعي الإصلاح الإداري.

- وضع استراتيجية خاصة بالإصلاح.

- تنفيذ الاستراتيجية.

- المتابعة والتقييم.

- التعرف على المعوقات ومصادر المقاومة لجهود الإصلاح والتعامل معها.

أما بخصوص الفساد المالي فهناك تعريف محدد له:

حيث يُعرَّف الفساد المالي بأنه سلوك غير سوي وغير أمين يعمل على جمع جميع الانحرافات المالية للتشريعات والقوانين للعمل لمصلحته الشخصية على حساب المصلحة العامة، وتسير لأشخاص أو مؤسسات خاصة وتشمل تقديم رشاوي للجهة المنتفعة، وتشمل الهدايا والرشاوى، وغسل الأموال والنصب على المستثمرين، يعرف أيضًا بأنه خروج عن قوانين الدولة ومصالحها وعدم التقيد به من أجل تحقيق مكاسب سياسية واجتماعية للشخص أو مجموعة معينة.

كما أن الفساد الإداري مشکلة تواجهها جميع دول العالم ومع ذلك، فإن نوعه وعمقه وحجمه يختلفان من دولة إلى أخرى مثلما تختلف آثاره تبعًا لنوع الهيكل السياسي والاقتصادي ومستوى تنمية الدولة

وعلى أي حال، يؤدي الفساد إلى الانحطاط، ويبدد الموارد الوطنية ويقلل من كفاءة الحكومات في إدارة شؤون البلاد، وهذا يقوض ثقة الناس في الجهات الحكومية وغير الحكومية ويزيد من اللامبالاة وعدم الكفاءة في المجتمع.

والفساد يقوض المعتقدات والقيم الأخلاقية في المجتمع، ويزيد من تكاليف تنفيذ المشاريع ويعيق نم والقدرة التنافسية.

في الوقت الحاضر، يمثل الفساد الإداري والمالي تحديا للمجتمع الدولي. تدرك الحکومات في جميع أنحاء العالم أن الفساد ضار للغاية ولا يعرف حدودًا، يمکن للمشکلة أن تشل اقتصاد الدول وتعرقل التنمية وتقوض سيادة القانون وتؤدي إلى تهديدات أخرى للأمن القومي.

أسباب الفساد وتأثيراته 

يمكن تحديد أسباب الفساد بما يلي:

1 . أسباب سياسية 

ويقصد بالأسباب السياسية هي غياب الحريات والنظام الديمقراطي، ضمن مؤسسات المجتمع المدني، ضعف الأعلام والرقابة. 

2 . أسباب اجتماعية 

متمثلة بالحروب وأثارها ونتائجها في المجتمع والتدخلات الخارجية، الطائفية والعشائرية والمحسوبيات القلق الناجم من عدم الاستقرار من الأوضاع والتخوف من المجهول القادم ... جمع المال بأي وسيلة لمواجهة هذا المستقبل والمجهول الغامض. 

3 . أسباب اقتصادية 

الأوضاع الاقتصادية المتردية والمحفزة لسلوك الفساد وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة. 

4 . أسباب إدارية وتنظيمية 

وتتمثل في الإجراءات المعقدة (البيروقراطية) وغموض التشريعات وتعددها أو عدم العمل بها، وضمن المؤسسة لعدم اعتمادها على الكفاءات الجيدة في كافة الجوانب الإدارية. 

 تأثير الفساد المالي يمكن أن يحدد في جانبين:

أ . تأثيره على الاقتصاد:

1 . ضعف الاستثمار وهروب الأموال خارج البلد.

2 . ضياع أموال الدولة والمواطنين. 

ب . إما تأثير الفساد على النواحي السياسية 

1 . يؤدي الفساد إلى إحلال المصالح الخاصة بدل المصالح العامة.

2 . يؤثر الفساد على وسائل الأعلام المختلفة ويجعلها ضمن المتطلبات الخاصة للمفسدين.

مكافحة الفساد المالي:

لقد تم تحديد الجهات التالية كجهات دولية مهمتها مكافحة الفساد الإداري على نطاق عالمي وهي: 

1-منظمة الأمم المتحدة: 

أصدرت الأمم المتحدة عدد من القرارات لمحاربة ومكافحة الفساد للقناعة التامة بخطورة الفساد وماله من مخاطر وتهديد على استقرار وامن المجتمعات.

2-البنك الدولي:

وضع البنك الدولي مجموعة من الخطوات والاستراتيجيات لغرض مساعدة الدول على مواجهة الفساد والحد من أثاره السلبية على عملية التنمية الاقتصادية. 

3-صندوق النقد الدولي:

لجأ صندوق النقد الدولي إلى الحد من الفساد بتعليق المساعدات المالية لأي دولة يكون فيها الفساد عائق في عملية التنمية الاقتصادية.  

4-منظمة الثقافة العالمية:

أنشأت هذه المنظمة سنة 1993 وهي منظمة غير حكومية (أهلية) تعمل بالشكل الأساسي على مكافحة الفساد والحد منه من خلال وضوح التشريعات.

أما الجهات المسؤولة عن مكافحة الفساد محليا:

فهناك ثلاث مؤسسات رقابة تعمل على مكافحة الفساد الإداري والمالي وهي: 

أ . هيئة النزاهة العامة:

أنشأت هيئة النزاهة بموجب الأمر 55 لسنة 2004 مهمتها التحقيق في حالات الفساد المشكوك فيها كقبول الهدايا والرشاوي والمحسوبية والمنسوبية والتمييز على الأساس العرقي أو الطائفي واستغلال السلطة لتحقيق أهداف شخصية أو سوء استخدام الأموال العامة. 

تجارب في الإصلاح الإداري:

تجربة الكويت:

تُعَدُّ الخطة الخمسية لدولة الكويت لأعوام 2009 إلى 2014 أساس عملية الإصلاح في دولة الكويت؛ إذ قدمت حلولاً واضحة للمشكلات الموجودة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما ركزت على إعادة هيكلة الأجهزة الإدارية في الدولة والتقليل من عدد الوحدات الإدارية عبر فك التشابك في الاختصاصات بينها وإسناد مهمة العمل الواحدة إلى وحدة إدارية واحدة.

إضافة إلى عمليات خفض الهياكل الوظيفية في القطاع الحكومي، وتبسيط الإجراءات، وإنشاء الحكومة الإلكترونية، وتقديم الخدمات إلكترونياً، والخدمات الأخرى الداعمة مثل البوابة الإلكترونية، وإنشاء مركز البيانات للقطاع الحكومي، وتكليف القطاع الخاص بأداء بعض مهام القطاع الحكومي، وإنشاء مركز متخصص لإعداد القيادات الإدارية لإنشاء هيئة مكافحة الفساد، وإصدار قانون مكافحة الفساد وتفعيل الآليات المؤسسية لمكافحته بأشكاله، وتعزيز الشفافية بالشكل الذي يحسن موقع الكويت على مؤشر الشفافية العالمي، وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني ودعم مبادراتها في التنمية بالتعاون مع الأجهزة المعنية.

كما عملت دولة الكويت على دعم سياسات التخطيط والإحصاء من خلال تأسيس معهد متخصص في التخطيط والإحصاء، وأيضاً عملت على نشر ثقافة التخطيط في المؤسسات الحكومية من خلال إعداد دليل للتخطيط على مستوى الدولة يتناول المنهجية والأدوات وكيفية تدريب القائمين على التخطيط بشكل مفصل، إضافة إلى إنشاء وحدات إدارية حكومية معنية بالتخطيط، وعملت على تطوير بنوك المعلومات الإحصائية والمؤشرات الاقتصادية المختلفة وجعلها متاحة عبر الإنترنت.

تجربة تونس

عملت تونس على إصلاح الإدارة من خلال القيام بمجموعة كبيرة من الخطوات، منها إحداث ديوان الدولة للإصلاح الإداري والوظيفة العامة، وإحداث ديوان الدولة للإعلام والمعلومات، وإحداث المعهد التونسي للدراسات والاستراتيجيات، وتطوير أجهزة الرقابة الأفقية والعمودية، وإنشاء النوافذ الموحدة في عدد من الإدارات والمختصة بتقديم الخدمات للمواطنين.

لتحقيق جودة الخدمات الإدارية وإشراك المواطن بالإصلاح، بدأ العمل بفكرة "المواطن الرقيب" في عام 1993؛ إذ يقدم المواطن الرقيب اقتراحه بتحفيز الموظف الجيد وإجراءات عقابية تجاه الموظف المقصر، ويرفع رئيس الحكومة تقريراً سنوياً عن ملاحظات المواطن الرقيب والتوصيات المقترحة إلى رئيس الجمهورية.

تجربة سنغافورة:

بدأ الإصلاح الإداري في سنغافورة منذ عام 1958؛ إذ اتخذ مسار الإصلاح فيها مساراً تراكمياً عبر السنين، وركز البرنامج على نقاط عدة أبرزها التركيز على الموظف وطاقاته وقدراته وليس الوظيفة، والعمل بنظرية القطاع الخاص لتحسين الاقتصاد، والاعتماد على العمالة الوطنية وقيام المشاركة بين الموظفين والمواطنين لإنجاز مشروعات خدمية، وإحداث مكتب لتلقي شكاوى المواطنين، وتطبيق عقوبات قاسية في مرتكبي الانحرافات الوظيفية، وإحداث جهاز إداري لمكافحة الفساد، وإعادة الهيكلة للأجهزة الحكومية كافة لفك التشابك وإنهاء الازدواجية وإنهاء المهام المتماثلة وحصر المهمة بجهة واحدة.

تجربة البرازيل:

ركزت تجربة البرازيل في الإصلاح الإداري على التقليل من تدخل الأجهزة الحكومية في القطاع الاقتصادي والخدمي، كما ركزت على اتباع نمط اللامركزية في الإدارة وزيادة المساءلة للأجهزة الإدارية والإعلاء من شأن الموظف.

آليات مكافحة الفساد الإداري والمالي:

إن تنامي ظاهرة الفساد الإداري والمالي وإمكانية تغلغله في كافة جوانب الحياة يتطلب وضع آليات وسبل لمكافحته ويمكن حصر أهمها في النقاط التالية:

1-المحاسبة: وتعني خضوع الأشخاص الذين يتولون الوظائف العامة للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم.

2-المساءلة: من واجب المسؤولين في الوظائف العامة، سواء كانوا منتخبين أم معينين تقديم تقارير دورية عن نتائج أعمالهم ومدى نجاحهم في تنفيذها، كما للمواطنين الحق في الحصول على المعلومات اللازمة عن أعمال الإدارات العامة (أعمال النواب والوزراء والموظفين العموميين) لكي يتم التأكد من أن عملهم يتفق مع القيم الديمقراطية ومع تعريف القانون لوظائفهم ومهامهم.

3-الشفافية: وتعني وضوح ما تقوم به المؤسسة ووضوح علاقتها مع الموظفين، وعلنية الإجراءات والغايات والأهداف.

4-النزاهة: وهي مجموعة القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص والمهنية في العمل.

5-بناء جهاز قضائي: مستقل وقوي ونزيه.

6-تفعيل القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد: على جميع المستويات، كقانون الإفصاح عن الذمم المالية لذوي المناصب العليا. 

7-تعزير دور الرقابة والمساءلة: للهيئات التشريعية من خلال الأدوات البرلمانية المختلفة.

8-دعم وتفعيل دور هيئات الرقابة العامة: كمراقب الدولة ودواوين الرقابة المالية والإدارية. 

9-التركيز على البعد الأخلاقي: وبناء الإنسان وتوعيته لمحاربة الفساد. 

10-تنمية الدور الجماهيري في مكافحة الفساد.

وهنا نورد مجموعة توصيات 

التوصيات: 

1- نشر ثقافة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد المالي في مؤسسات الدولة وأفرادها.

2- العمل على جعل الجهاز الإداري الحكومي جهاز منفتح يؤثر ويتأثر بالبيئة المحيطة.

3- يجب وضع الاستراتيجيات المناسبة للإصلاح الإداري.

4- توعية المجتمع بمفاهيم الاصلاح ومكافحة الفساد.

5- أهمية توجيه الإنفاق العام لصالح فتح مراكز للتأهيل والتدريب لمواجهة مكافحة الفساد المالي.   

6- من الضروري أن يكون هناك توافق وتكامل بين استراتيجيات الإصلاح الإداري واستراتيجيات مكافحة الفساد والتنمية المستدامة للبلد.

خلاصة القول: يتضح لنا أن العراق هو أحد البلدان التي تعاني من آفة الفساد المالي والإداري لأسباب كثيرة مرَّ ذكرها في أعلاه، ولعل أكبر الأسباب تكمن في الفوضى التشريعية وفي الضعف الواضح للعيان في تطبيق التشريعات رغم ضعفها، حيث أدى ضعف التشريعات وضعف تطبيقها إلى انتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي بوضوح، في مقابل تراجع شديد لعمليات الإصلاح التي غالبا ما يصيبها الفشل، لذا نحتاج لمكافحة هذه الظاهرة إلى سن تشريعات رادعة قوية، مع التركيز على أهمية تطبيقها على المخالفين، على ان نطلق حملات تثقيفية واسعة تزيد وعي الناس بخطورة هذه الظاهرة التي لا ينجو منها أحد حتى الفاسدين.

المداخلات:

إنفاذ عقوبات القوانين الإدارية

 الدكتور حميد مسلم الطرفي: 

- تقوم الدولة على اربعة اركان الإقليم والشعب والسيادة والسلطة السياسية او النظام السياسي ومن النظام السياسي يتفرع النظام الإداري للدولة والنظام الاقتصادي والاجتماعي… إلخ. 

- الدولة العراقية ذات عمر يناهز المائة عام ولديها منظومة قوانين جيدة جداً سواءً قانون العقوبات العراقي او القانون المدني العراقي او القوانين الإدارية (قانون الخدمة المدنية وقانون انضباط موظفي الدولة) ومجمل قوانين الوزارات التي تدير المرافق العامة. 

- المشكلة لا تكمن في القوانين حتى تحتاج إلى إصلاح وإنما في التطبيق، اي تطبيق القوانين النافذة في مجال الإدارة. 

- اهم المعوقات في تطبيق القانون الإداري لكي تتم عملية الانضباط الإداري هو ضعف النظام السياسي او السلطة السياسية الناتج من غموض الهوية وآثار الاحتلال وحداثة التجربة الديمقراطية وطبيعة الشراكة في صنع القرار. 

- الحل يكمن في إنفاذ العقوبات الواردة في القوانين الإدارية وذلك لا يتم إلا بإعادة هيبة الدولة وتلك لا تأتي إلا بقوة النظام السياسي وترسيخه في المجتمع وإيقاف المحسوبية والمنسوبية في الرقابة الإدارية السابقة واللاحقة والمرافقة والمحاسبة على ضوء المراقبة

الإدارة الصادقة والبيئة المناسبة

الدكتور محمد مسلم الحسيني: 

تسمو الأمم وتنحدر في مفارقة بين مفردتي الإصلاح والفساد، فالأمة التي ترتضي لنفسها الصلاح والإصلاح تنجو من مغبة الضلالة والأمة التي ينخر بنيتها الفساد تأفل وتضمحل. الإصلاح في كيان الأمة له أوجه وصنوف ومن أهمها الإصلاح الإداري والمالي وهذا ما يمهد السبيل للإصلاحات الأخرى برمتها. يمكننا تعريف الإصلاح الإداري بأنه " عملية تصحيح لخلل أو لفساد أو لتقصير في منظومة الجهاز الإداري للدولة، وهو أساس صيرورة الدولة ومحور نهوضها وتقدمها في خططها التنموية وفي إدارة شؤونها الحيوية من سياسية واقتصادية مالية واجتماعية ثقافية وغيرها وعلى أنسب وجه". من خلال هذا التعريف يمكننا القول بأن بنية الدولة قد تنهار في خراب أساسها، والأساس كما أسلفنا هو " صلاح الإدارة". من هذا المنطلق تتوضح ضرورة معرفة مفهوم الإصلاح بصنوفه وانواعه وبالأخص الإصلاح الإداري والمالي في شؤون الدولة ومعرفة الآليات والأهداف والمعوقات والتحديات التي تواجه عملية الإصلاح هذه.       

الإصلاح هو أمر شمولي وجهد جماعي منظم يبدأ برأس الهرم في السلطة ويمر بمؤسسات الدولة وينتهي بأفراد المجتمع. الهدف المتوخى من الإصلاح هو تنظيم وتحسين ورفع مستوى العطاء في مرافق الدولة الإدارية والمالية والإنتاجية والخدمية والصحية وغيرها. آليات الإصلاح بكل أنواعه يمكن ايجاز بعضها بخطوات ومطالب وضروريات وهي كالاتي:                         

أولا/ مكافحة الفساد: يعتبر الفساد الإداري والمالي في كيان الدولة ومؤسساتها من بين أهم التحديات التي تواجه عملية الإصلاح برمته. يعالج الفساد الإداري والمالي بمضاداته الفعالة وذلك برفع مستوى الأجهزة الحكومية من خلال البحث عن الكفاءة في الأفراد والمعدات والأداء. فيجب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والغاء المحسوبية في تعيين الكفاءات التي يجب أن تتحصن بالقيم المهنية كالمعرفة التامة والنزاهة والتفاني في العمل والانضباط والشعور بالمسؤولية وكسب ثقة الآخرين. يضاف إلى ذلك إتباع سياسة ترشيد الاستهلاك والانفاق والصرف ووضع آلية للمراقبة والإشراف والتحري. للفساد المالي اثر كبير في طريق الإصلاح ويتجلى هذا الفساد بعدة مظاهر ووجوه ومنها: 

السرقة ونهب المال العام، الرشوة والابتزاز، التزوير والغش، غسيل الأموال وتبيضها، المحسوبية والمنسوبية وغيرها. يؤثر الفساد المالي سلبا على كثير من الأصعدة ومنها الجانب الاقتصادي للدولة، وذلك من خلال هدر المال العام وإعاقة النمو وخرق روح التنافس وتبديد الموارد وابتعاد المستثمر الذي يفقد الثقة بهيبة ومصداقية الدولة الفاسدة ومؤسساتها. فوق هذا وذاك فإن الفساد المالي يعمق الهوة الكائنة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة وذلك بسبب الإرباك الحاصل في عدالة توزيع الثروة والموارد المالية بين الطبقتين. هذه الأمور برمتها تزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي في الدولة مما ينعكس سلبا على حالة الاقتصاد أيضا. الفساد المالي هو خرق للقيم والأخلاق وخلق حالة عدم التكافؤ الاجتماعي واللا انصاف، وهذا بحد ذاته يكفي لزعزعة الأمن الاجتماعي والقومي من خلال طعن مبادئ العدالة والنزاهة في المجتمع وتدني النشاط الخدمي والانتاجي وعرقلة الإصلاح الإداري وتقويض سيادة القانون. محاربة الفساد المالي المستشري في شرايين الدولة ومؤسساتها مهمة صعبة وتتطلب جهودا جبارة يشارك فيها المجتمع برمته أفراد ومؤسسات وقيادات. تفعيل سلطة العدالة والقانون ومؤسسات الرقابة والنزاهة من أجل قطع دابر هذا المرض الاجتماعي الوخيم، هو امر لا مفر منه في إصلاح هذا النوع من الفساد.                                     

ثانيا/ سياسة الثواب والعقاب: تحفيز وتشجيع ودعم الكادر الإداري من أجل الانتفاض على نفسه وإصلاح ذاته بذاته وذلك من خلال خلق حالة المنافسة في إسداء العطاء والتسابق نحو الإبداع والالتزام بالنزاهة وإبراز الكفاءة. إجراءات التمايز بين الأفراد على ضوء هذه الأمور يعتبر ركيزة للتشخيص والمقارنة بين الصالح والطالح، وهذا يسهل عملية الفرز بين المستجيب لحركة الإصلاح وغير المستجيب لها. عندها يحصل الثواب في مكافأة من استجاب ويحل العقاب بمن لم يستجب، ضمانا للمصلحة العامة. الاجراءات الممتدة لتحقيق هذا الأمر تستوجب الصراحة والشفافية والعدالة والوضوح من أجل الصدق في تشخيص الحالة والتعامل معها بما يقتضي الأمر بإرادة ثابتة لا تتأثر بالضغوط الداخلية والخارجية او العواطف.  ثالثا/ تطوير العنصر البشري: ذلك من خلال مواكبة حركة التطور وبالاستئناس بالأفكار والطرق الحديثة وبما يستجد من بحوث تخصصية جديدة وخبرات عملية سابقة تهدف إلى الوصول للغاية وهي الإصلاح الناجع الذي يحقق أهداف المجتمع المرجوة على كافة الأصعدة. إتباع استراتيجيات أكاديمية متخصصة سواء أكانت شمولية الطابع أو جزئية، دائمة التطبيق أو مؤقتة، وذلك حسب مستلزمات الظرف ومقتضيات الحالة.

من لوازم هذا التطوير أيضا هو إقحام منظمات المجتمع المدني في المشاركة الفعلية بمعالجة الحالة وفي عملية صنع القرار وبرفد الكفاءات الكامنة لديها في تطوير الكادر الإداري المعني في عملية الإصلاح واغنائه بالنصائح والارشادات المناسبة. تطوير العنصر البشري يتم أيضا من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية المتبعة وعدم تعقيدها. الاستجابة للمطالب المنطقية للمواطن في توفير الخدمات المطلوبة والضرورية وتوفير بيئة العيش المناسبة هي أسلوب للتطور وتعتبر من الأمور محسومة القرار ومن يتهاون فيها أو يناقضها يجب أن يتعرض للمساءلة والحساب.                              

مهما يكن من أمر، فالظروف السياسية الاستثنائية التي مر بها العراق في فترة ما قبل التغيير قد تجلت بقرارات لسلطة عشوائية جرت البلاد إلى حروب كارثية طويلة بمدتها خطيرة بمضاعفاتها. تبعها ظروف سياسية استثنائية أخرى بفترة التغيير وما بعدها، حيث اقتحمت الديمقراطية غير المحسوبة مجتمعا يعاني من الحرمان والقهر والتباين لا يملك ثقافة الديمقراطية وأدبياتها، وقد ابتلى بنظام محاصصة سياسية فتحت عليه باب المحسوبية والمنسوبية على مصراعيها، فتجلى الفساد بكل صنوفه واوصافه ففاق بدرجته ومداه ما وصف منه في المجتمعات الأخرى! وهذا ما يجعلنا أن نستشرف على أن العلاج الموصف للحالة لن يكون علاجا سهلا يشفي العلة كما ينبغي الا إذا توفرت الإرادة الصادقة والبيئة المناسبة والآلية الصحيحة للإصلاح والتصحيح!

إعادة النظر في الرؤية الاقتصادية

الأستاذ حامد عبد الحسين الجبوري باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

في البداية لابد من هذا السؤال، لماذا ظهر الفساد؟، إذ لا يمكن للطبيب أن يعالج مرضا معينا دون تشخيص ومعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا المرض أو هذه الأعراض، فالسؤال المطروح حقيقة هو لماذا ظهر الفساد في العراق؟

بالتأكيد هناك أسباب عديدة وفي مجالات مختلفة، فهناك الجانب الأخلاقي، والجانب الديني، والجانب السياسي، وأيضا الجانب الاقتصادي، وسوف أتناول الجانب الاقتصادي، واشير إلى الأسباب الاقتصادية التي أدت إلى ظهور الفساد المالي، ومن ثم البحث عن آليات معالجة هذا الفساد.

في تقديري أن عام 2003 يمثل نقطة مفصلية في مسيرة الاقتصاد العراقي، والتي تتمثل بالتحول من اقتصاد اشتراكي، إلى اقتصاد سوق، لكن المشكلة تكمن في التعثر بالتحوّل، فلا توجد آلية سلسلة للتحول من هذا النظام إلى النظام الآخر، لذلك حدث نوع من الاختناق في أغلب قطاعات الاقتصاد.

هذا الاختناق أدى إلى البحث عن مجالات لتسهيل هذه الأعمال، الاختناق يعني المزيد من التكاليف، مزيد من الوقت، مزيد من الإجراءات، كل هذه تمثل كلفة مأخوذة من رأسمال، ومن ثم تقليل الأرباح، لذا فإن الآثار وخيمة، لذلك فإن العراق يحتل مراتب متقدمة في مؤشر الفساد العالمي، بالإضافة إلى مؤشر بيئة الأعمال.

هذان المؤشران يدلان بشكل واضح على ظهور الفساد بشكل جلي، وهنا نحتاج أن نجعل بيئة الاستثمار أكثر سلاسة وأكثر خفة، أي خلق بيئة خفيفة لرجل الأعمال، حتى تكون هذه البيئة جاذبة لرجل الأعمال سواء كان محليا أو خارجيا، فكلما كانت بيئة الأعمال سلسة تكون الأرباح أكثر، ولذلك تكون جاذبة لرأس المال.

كذلك بالنسبة للفساد، فهو يتعلق دائما بشكل متزامن لدور الدولة في الاقتصاد، لأن القطاع الخاص يبحث دائما عن البيئة الأفضل كما ذكرنا، وهذه البيئة من الذي يصنعها، الجواب: الدولة، حيث تكون الدولة هي الراعي لرسم المسار الاقتصادي، اين يتجه وما هي الخطوات التي من الممكن أن يسير فيها الاقتصاد، وهل هي عملية معقدة أم سهلة؟  

نعود ونقول إن أحد الأسباب الرئيسة عدم وجود رؤية اقتصادية واضحة لدى للدولة، فهي لا تضع رؤية واضحة لمسيرة الاقتصاد، حتى يسير الاقتصاد بشكل سلس ويتجاوز كل المشاكل، وأبرزها قضية البطالة، فنحن نعرف أن الاعتماد على القطاع النفطي كبير، وكلما زاد الاعتماد على النفط قلت فرص العمل وزادت البطالة وهذه مشكلة متراكمة باستمرار.

لذا مطلوب إعادة النظر في الرؤية الاقتصادية، وبناء بيئة الأعمال الجيدة، ومكافحة الفساد، وهذا جانب مهم كما اعتقد وهو يتعلق بالمؤسسات، فنحن نفتقد للمؤسسات، نعم توجد لدينا مؤسسات لكنها في الحقيقة مختطَفة، ولم نعالج المشكلة بشكل حقيقي، ولذلك نلاحظ اليوم هناك كثير من المؤسسات لا تمتلك القرار الحاسم والجريء الذي يتعلق بالمهام التي تأسست من أجلها هذه المؤسسات.

على سبيل المثال كلما كانت المؤسسة الاقتصادية قوية ومستقلة في قرارها، هذا سوف يعطي مؤشرات جيدة للمستثمر، كذلك مسألة التشريع، وكذلك بالنسبة للإعلام، كل المؤسسات في العادة ضعيفة، ولذلك هذا يؤثر على مراقبة الفساد وكشفه للجهات المعنية.

التشريع المقرون بالتطبيق الحازم

الأستاذ علي حسين عبيد كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

إن هذا الموضوع في الحقيقة بالغ الأهمية، ومن ضمن الأمور التي أتذكرها في أيام الدراسة، بجامعة بغداد في الثمانينيات 1984، كان الدكتور هادي الطعان، يحاضر في مادة اقتصادية وقد ناقش قضية الفساد آنذاك والأنظمة الاقتصادية، وانتقالها من الأنظمة الدكتاتورية إلى الديمقراطية الرأسمالية أو العكس.

وأتذكر في ذلك الوقت قال، هذا التحول يحتاج إلى فساد، لأن الفساد سوف يولّد وفرة مالية كبيرة جدا، تحرك عجلة الاقتصاد بقوة وتصنع مشاريع قوية وكبيرة جدا، وطبعا هذا الفساد يُصنع بمساعدة من قوى رأسمالية، فيبدو أن هناك جهات رأسمالية ساعدت على قضية تشجيع الفساد في العراق، هذا بحسب قول الطعان آنذاك.

لكن نحن نلاحظ أن هذه الوفرة المالية الكبيرة ما كان لها أن تتحقق، لولا وجود خروقات كبيرة في الاقتصاد العراقي، وإلا كيف تتحقق مليارات الدولارات لتحقيق هذه الطفرة في البناء، ونلاحظ أنها ليست طفرة في مجالات إنتاجية، حتى نشيد بها، وإنما نوع من الاستثمار الاستهلاكي في تشييد المطاعم والمولات.

في جوانب استهلاكي، يعني تطور في جانب استهلاكي وليس انتاجيا، وكان الصحيح أن يحدث التحول في المجال ينتقل الاقتصاد العراقي فعلا من اقتصاد عام (اقتصاد دولة) إلى اقتصاد السوق الحرة، وقضية الفساد في العراق واضحة والكل يتحدث عنها، والأسباب أيضا واضحة ومعروفة، وجل هذه الأسباب هي سياسية.

من الواضح أن هناك جهلا سياسيا، وهناك أحزاب متنفذة، وهناك أساليب تُدار بها الدولة بشكل غير صحيح، ولهذا انتشر الفساد بشكل كبير.

آليات مكافحة الفساد بالنسبة للإجابة عن السؤال الثاني، أيضا هي معروفة وأهم نقطة في هذا المجال هو التشريعات القوية الرادعة، ولابد أن يرافقها بالدرجة الأولى قضية التطبيق الرادع والقوي والصحيح، حتى على الأقل نحد من الفساد، لأنه الفساد موجود في أقوى الدول، يعني في أمريكا هناك حُزَم من الفساد لا عد ولا حصر لها وهي أقوى دولة في العالم سواء من حيث التشريع أو من حيث التطبيق لكن يوجد فيها فساد.

ولكن هناك فساد غير منفلت، أي الفساد المسيطَر عليه، أي أنه فساد محدود، لهذا نحن نحتاج بالدرجة الأولى إلى الآلية التشريعية التي تقترن بالتطبيق القوي والحازم.  

لا يوجد مشروع متكامل لبناء الدولة

الدكتور حميد الهلالي كاتب وباحث ومحلل سياسي:

في بداية الحديث أضع نقطة رأس سطر أن الفساد سياسي، هذا أو شيء أن الفساد سياسي، فهو منظومة موجودة بأصل النظام السياسي، لذلك لا يمكن التخلص من هذه المنظومة السياسية، قد يكون هذا الطرح مفاجئا للجميع ولكن هذا ما أنتجه الفساد ولو أننا راجعنا الأمر بشكل بسيط سوف نجد أننا صدرنا من النفط ما قيمته 1200 مليار دولار والمصروف منها 280 مليار، والبقية كلها تسربت إلى جيوب الفاسدين.

هذا شيء والشيء الثاني وقد يكون أهم، إننا الآن ليس لدينا شيء أسمه دولة، نحن عندنا سلطة، هذه السلطة تقترح وتعتمد المصالحة الوطنية، وسلطة أخرى تأتي وتقترح الإصلاح الإداري وهكذا، لذلك لا يوجد مشروع متكامل لبناء دولة، لذلك كل رئيس وزراء وكل سلطة لديها رؤية معينة للفساد، الشيء الأهم أكثر أننا نحتاج إلى الأتمتة في القضايا الإدارية، في حين نحن لحد الآن دولة ورقية، دولة تعيش في القرون الوسطى.

لذا نلاحظ كثرة التوقيعات على أي ورقة إدارية، وبعد ذلك مطلوب صحة صدور وهكذا، لذلك كل هذه الأمور هي أبواب للفساد، وأحيانا تضيع معاملة المواطن، لا توجد بضاعة في العالم تدخل من الموانئ عن طريق الورق، حيث توجد أجهزة إلكترونية وأتمتة، في المنافذ والمطارات، والمدير لا يحاول أن يغادر عقليته البيروقراطية، ولا يحاول أن يعطي فرصة للشباب لكي يطوروا العمل الإداري.

لا يزال العمل الإداري يُدار بعقليات قديمة، تؤمن بالبيروقراطية وكثرة التوقيعات على الورق، وهي عملية كاذبة، هدفها أن تفشل العملية الديمقراطية ثم بعد ذلك ينتشر الفساد المالي والإداري وهكذا، لذلك علينا أن نغادر طريقة العمل التي نعم بها في هذه الدولة، ويجب علينا أن نقوم بإصلاحها كلها.

لذا نحن ذاهبون إلى الهاوية، نسب الفساد الموجودة عندنا، يزداد يوم بعد آخر مع كل ما نقوم به، أنا أتذكر بالثمانينات إذا كان أحدهم يرتشي المنطقة السكنية تخجل منه، والبيت أيضا، وعشيرته تتبرأ منه، أما الآن فالموظف الذي لا يرتشي يقولون له أنت (فقير) ولا تعرف كيف تستغل الفرص، أما المرتشي فهو جيد ومحترم وعنده بيوت وأملاك.

في السبعينات إذا حصل أحدهم على أموال وبنى بيوتا فالناس كانت تتساءل علنا، من أين جاء بكل هذه الأموال؟، ويعد هذا الإنسان غير محترم، المشكلة التي نعيشها اليوم أن المنظومة الأخلاقية تغيّرت لدينا في المجتمع، قد يُعزى ذلك إلى قصور ديني أو ثقافي فالكل يشترك في عدم مكافحة هذه المشكلة. 

أنا لا أعمم هنا ولكن مع احترامي جزء من التوجيه الديني خاطئ وكذي الجانب الثقافي والتعليمي والتربوي. لذلك نحتاج إلى تغيير جذري، لأننا لا نعالج المشكلة وإنما ندور حولها، أي أننا ندور حول الفساد ولا نقوم بمعالجته.      

التقاليد السلبية في الثقافة العراقية

الأستاذ الدكتور خالد العرداوي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

تدور هذه الحلقة النقاشية حول موضوع مهم يُقلِق الجميع، وفي نفس الوقت يهدد الجميع، يهدد الحاضر، يهدد الآباء والأبناء، ويهدد الأحفاد، ألا وهو موضوع الفساد الإداري والمالي، وأحسن مقدِّم الورقة باختياره لهذا الموضوع، وإن شاء الله يكون انطلاقة مفيدة وناجحة له في عمله ضمن مركز الفرات.

قبل أن أبدا بمداخلتي، ذكر الدكتور حميد الهلالي أن المرتشي حين يرتشي اليوم يتم التفاخر بذلك، سواء به أو بفعله، والإنسان النزيه يُنتقَد، حقيقة لا أعرف لماذا قفز إلى الذهن مباشرة قضية القيادة السياسية، لأن هذه الحالة كانت موجودة في العراق، وأقصد قضية التفاخر بالسرقة، والتفاخر بقطع الطريق هذه كانت موجودة في الثقافة العراقية السابقة في فترة ما.

يبدو عندما تكون القيادة السياسية قيادة غير وطنية، أو قيادة لا تمثل إرادة المجتمع العراقي، يحدث انقلاب في قيم المجتمع نفسه، عندما تكون القيادة هي فاسدة وغير وطنية تصبح القيم منقلبة أو هرم القيم منقلب رأسا على عقب، ولذلك حتى في الزمن العثماني كان هناك تفاخر بالسرقة وقطع الطريق، وكان الناس يعتبرون من لا يسرق ولا يقطع الطريق (خنيث)، أو ليس رجلا، هذا لأن القيادة لم تكن وطنية.

يبدو أننا في هذا الوقت تحتاج قيادتنا السياسية إلى أن تعيد النظر بمدى وطنيتها، وأن تبرهن لنا هل هي فعلا قيادة وطنية، حتى تعيد التوازن للقيم.

وفيما يتعلق بموضوع الحلقة، أجد أن الأسباب أو المعوقات التي تواجه الجهاز الإداري في العراق هي:

السبب الأول: غياب الإرادة السياسية. 

لا توجد إرادة سياسية في العراق للإصلاح، على العكس من ذلك، الإرادة السياسية اليوم هي ماضية في خانة عدم الإصلاح، بمعنى الإصلاح يضر بالقيادات السياسية في العراق، ولذلك لا توجد إرادة سياسية عازمة ومصممة على قضية الإصلاح الإداري، والفساد المالي سببه فساد إداري، يعني ليس العكس، لذلك يعرف الأخوة في الاقتصاد، يقال الفساد الإداري والمالي ولا يُقال الفساد المالي والإداري. فالأسبق هو الفساد الإداري، 

السبب الثاني: هيمنة القرار السياسي على القرار الاقتصادي.

إن هذه القضية التي نعيشها اليوم ليست جديدة، بل حتى في زمن صدام حسين، وقبله، فغالبا ما كانت القيادة السياسية هي التي تصنع القرار الاقتصادي، وتتخذ القرار الاقتصادي، وهذا في الغالب يكون مخالفا للموضوعية، ومخالفا للحاجة الاقتصادية للمجتمع.

السبب الثالث: سيادة ثقافة الفساد في التوظيف والقيادة الإدارة.

يعني لا يوجد لدينا فساد فقط، بل هناك ثقافة فاسدة، تأتي بالموظف الفاسد، وتأتي بالقيادة الإدارية الفاسدة، حتى تتولى إدارة مؤسسات الدولة، هذه الثقافة الفاسدة هي التي تنجب غدارة فاسدة، وهذا ما ذكره الدكتور الهلالي، أنه اصبح هناك سرقة وتفاقم في قطع الطريق، فالميلشيات المنفلتة عبارة عن قطاع طرق، ففي دولة ذات سيادة لا توجد حاجة لميلشيات منفلتة، ولكن لأنها لا تستفيد من الدولة ذات السيادة فهي تخرج من خانة مؤسسات تعمل في إطار القانون والدولة إلى مؤسسات هي عبارة عن جماعات تقطع الطريق، تهدد الأفراد، تهدد المؤسسات، تهدد المجتمع، وتهدد السلم الاجتماعي.    

لذلك فإن هذه الثقافة تشكل مشكلة حقيقية، وأيضا يرتبط بها سبب آخر هو تفكك منظومة الدولة وتغول مؤسسات اللادولة، هذه الأسباب الأربعة كلها مع بعضها أعتقد أنها تمثل معوقات أساسية تواجه الإصلاح الإداري في العراق.

ما العمل، ما الذي ينبغي أن نقوم به لمعالجة هذه المعوقات؟، هناك آليات عمل هي:

الآلية الأولى: سيادة القانون.

فبدون سيادة القانون وتعزيز مؤسسات إنفاذ القانون، لا يمكن أن نتكلم عن إصلاح، أي كان هذا الإصلاح، إصلاح اجتماعي، أو إصلاح ثقافي، أو تعليمي، كل ما نقوم به كأنه هواء في شبك، بدون قانون محترم، ومؤسسات إنفاذ القانون محترمة وقوية، فإن أي حديث عن الإصلاح لا قيمة له.

الآلية الثانية: مأسسة عمل الدولة. 

ينبغي أن نغادر ثقافة القائد الملهم، والقائد الأوحد، إلى أن تصبح قيادتنا ضمن دولة المؤسسات، وعندما نتكلم عن مأسسة الدولة، هذا يعني دخول الحوكمة والأتمتة وكل هذه المفردات، القرار لا يصدر عن فرد، وإنما القرار هو قرار مؤسسة، والمصلحة ليست مصلحة أفراد، وإنما مصلحة مؤسسة، وهذه المصلحة للمؤسسة تتحرك في إطار مصلحة دولة.

الآلية الثالثة: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

عندما تجيء بسارق وتضعه مديرا لمؤسسة فماذا تتوقع منه؟، هل يحولها إلى مؤسسة ناجحة أم إلى مؤسسة فاشلة؟، وإذا جئت بشخص هو نفسه لا يحترم القانون ولا يحترم الكفاءة، ولا يحترم القيم، إنسان ربما يكون مثل صدام حسين، إنسان كان من المفروض أصلا أن يدخل إلى مصح عقلي، فشخص مثل تنشئته كان المفروض يدخل في مؤسسات تأهيل نفسي، قبل أن تجعل منه قائدا.

نحن أتينا بالمجانين المعاقبين المأزومين، وجعلناهم يقودون دولة، ويقودون مؤسسات، فماذا نتوقع من هؤلاء وماذا سيحصل؟، أكيد سوف ستكون النتيجة خراب، فبدون الاختيار الجيد للقيادات سيستمر مسلسل الفشل والتردي في عمل مؤسسات الدولة.

الآلية الرابعة: القيادة الاقتصادية والقرار الاقتصادي.

تحرير القرار الاقتصادي من سطوة القرار السياسي، فاذا لم يتحرر القرار الاقتصادي من القرار السياسي، فهذه مشكلة كبيرة.

الآلية الخامسة: استراتيجية تنموية شاملة في العراق.

أختم هذه الآليات بأهمية وجود استراتيجية تنموية شاملة في العراق، فبدون هذه الاستراتيجية الشاملة المتعددة الأبعاد، والتي تشمل كل القطاعات، فنحن لا يمكن أن نحقق شيئا، والإصلاح سوف يبقى متعثرا، فنحن نجتمع اليوم لمناقشة هذه المشكلة، وقد يجتمع أبناؤنا أيضا مستقبلا ويناقشوا أسباب التعثر في الإصلاح الاقتصادي أيضا، في حال غياب وجود هكذا استراتيجية صالح للوضع العراق، ويتم تطبيقها بصورة صحيحة.

التصلب والتطرف الفكري للدولة

سماحة الشيخ مرتضى معاش:    

(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا)، الفساد قديم جدا منذ قِدَم وجود الإنسان، موجود في كل مكان مع الإنسان الذي يوجد عنده دائما توق وحب للمال، والحصول على الثروة وعلى المزيد من المال، فكان هذا الفساد سببا بالكثير من المشكلات، منها ضياع الإنصاف، ضياع الحقوق، ظهور الاستبداد، ظهور الطغيان، كل هذا سببه الفساد.

الفساد يعني الاستحواذ والاستغلال غير المشروع لحقوق الآخرين، بأية طريقة كانت، فالنظرية التي طُرِحت هي الدولة والقانون كنظرية من التحكم بالفوضى، ووضع قانون يحمي حقوق الإنسان، ويحقق العدل والإنصاف بين الناس.

ولكن القانون أصبح مجرد وسيلة، لهيمنة الحاكم أو النظام الحاكم، أو النظام الحاكم، او الملك، أو السلطان، او الرئيس، فأرادوا أن يحلوا المشكلة فوضعوا قانونا آخر، وقانونا آخر وهكذا فأصبحت الدولة هي الشر وهي الفساد من خلال هذه القوانين.

الدولة اليوم في أي مكان بالعالم، موجودة وتسمى بالدولة العميقة، بالنتيجة هي محور الفساد، والأجهزة الأمنية الموجودة في مختلف الدول تم تشكيلها لضرب المطالبين بمكافحة الفساد، فالإنسان الفاسد عنده دائما تحالفات مع اصحاب المصالح الآخرين، فتنشأ منظومة ضد العقلاء والنزيهين المطالبين بمحاسبة سراق المال العام.

لهذا أصبحت الدولة مشكلة، لكن أصحاب الفكر السياسي لديهم رؤية مختلفة ومتناقضة حول دور الدولة، فما هو دور الدولة في المجتمع؟، أصبح دور الدولة متضخم جدا بحيث أن سبب وجودها كان حماية المواطن وحماية الحقوق، الإدارة نظام، تم وضعه لخلق التوازن في المجتمع بين الحقوق والواجبات، أو بين حقوق الناس المختلفة.

فالنظام صياغة للتوازن، وحماية حقوق الناس، ولكن أصبحت الإدارة هدفا وغاية بحد ذاتها، فأصبحت متصلبة، لا يمكن مناقشة طبيعتها، بحيث أصبحت مقدسة، فإذا ذهبتَ اليوم إلى أي دائرة حكومية تجد أن القانون الإداري مقدس، لا يمكن مناقشته، وإذا ناقشته فإنه يقوم بتكفيرك، أنا جربت هذا الشيء، حيث يعتبر القانون الإداري مقدس.

وإذا ناقشت القانون الإداري فهذا يعتبر إهانة للدولة وإهانة للموظف، هذا هو الواقع الذي نلمسه ونراه، فخرجت الإدارة من كونها وسيلة فأصبحت غاية، فأصبحت متصلبة، جامدة، وهي التي اصبحت تخترق الحقوق وتحتكرها أو تحارب الحقوق.

لذلك لابد أن نعود إلى الأسس، سواء كنا علمانيين أو دينيين، العلمانية من الاتجاه الرأسمالي، يؤمنون بأساسية القيم، التي تحكم الدولة والنظام، ولا يمكن لأي نظام اقتصادي أن يساعد على حيوية التقدم وتحفيز جودة الحياة دون قيم أساسية، بالنتيجة يحصل الإنسان على الحياة المطمئنة والطيبة.

بالنسبة للعراق، أحد الأسباب الأساسية للفساد، هو جمود النظام الإداري الذي أصبح متصلبا، ولا يمكن أن نغيرهُ، بل أصلا لا يمكن كواجهته، فبعضهم الآن تمسك بالأنظمة القديمة وبعضها قانونية عثمانية ترجع إلى الدولة العثمانية، لذلك نلاحظ أنها أصبحت مقدسة أكثر من الكتب المقدسة.

من الأسباب أيضا تضخم الجهاز الإداري، باعتبار أن الدولة تتضخم، فنلاحظ في كل مكان هناك تضخم في الأجهزة الموجودة، وسبب ذلك أن الدولة لكي تسيطر على مقاليد السلطة، فتأتي بكثير من الموالين لها، حتى تخلق طبقة من المدافعين عن هذه الدولة. 

فينقسم الشعب بنسبة ربع إلى ثلث الشعب بين مدافع عن الدولة ومتمسك بها وحامٍ لها، وبين الـ 70 من الشعب الذين هم بالنتيجة خاضعين لهذا الربع وهم تابعين وخانعين ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئا.

لذلك نلاحظ اليوم الحالة الشعبية، غياب الوعي الشعبي تجاه المشكلة الإدارية، لذلك نلاحظ المواطن العراقي ممتعض من مراجعته لدوائر الدولة، لكنه بالنتيجة هو خانع وقابل بهذا الواقع الموجود، وترسخت عنده ثقافة شعبية بأن هذا الوضع الإداري الحالي هو يمثل الحقيقة. 

فالإنسان عندما يتربى وينمو من خلال اكتساب ثقافي مستمر على نوع معين مستمر من القيم والسلوكيات سوف تصبح في ذاكرته هي الصحيحة وأن هذا الوضع هو الصحيح، لكن في الحقيقة هذا الشيء مخالف وغير صحيح.

النقطة الأخرى التطرف الفكري، الموجود عند البعض من أصحاب النظرية الخاصة بالدولة والقضايا الإدارية، وتمسكهم القوي بالدولة على حساب الشعب، هو الذي يؤدي إلى المزيد من بناء القوانين الإدارية للتحكم بالناس والهيمنة عليهم.

فالتطرف الفكري موجود، أليس كذلك؟، لذلك فإن القطاع العام فاشل، فلماذا التركيز عليه وترك القطاع الخاص، هذا يعني أن هناك تصلب وتطرف فكري في حماية نظرية سلطة الدولة. ولهذا اصبحت شخصيا مؤمنا بالدولة العميقة لماذا؟، لأن الدستور العراقي كان قائما على قضية الأقاليم الفيدرالية واللامركزية.

لكن الدولة العميقة الآن استطاعت أن تقلب الأمور على الدستور العراقي، وضربت الفيدرالية في العمق، وضربت اللامركزية في العمق، لماذا؟، لأنهم قاموا بعملية استلاب كامل للشعب، هذا هو معنى التصلب الإداري وتضخم الإدارة التي تعود للدولة، لذا يمكن أن تسمى دولة فاشلة أو دولة عميقة، فيها قضاء وأجهزة أمنية ومؤسسات أخرى.

فهل الدولة غاية أم وسيلة؟، الجواب هي وسيلة، والشعب هو الغاية، فإذا أصبحت الدولة غاية والشعب صار وسيلة، فهذه مشكلة، إذن علينا أن نتحرك (وهذه إجابة عن السؤال الثاني) لتصغير الدولة وجعلها أكثر مرونة، وتحجيم الجهاز الإداري، وتقليل القوانين، وتقليل الموظفين، وإعطاء القطاع الخاص قوة كبيرة مع وجود أطر، ولا نسمح بأن يصبح القطاع الخاص هو أساس الفساد حيث ينتقل من الدولة إلى القطاع الخاص.

مع أهمية وجود المشاركة الشعبية، وكل هذا يقوم على عملية تحفيز القيم الأساسية، سواء كانت مؤسسات دينية، أو مؤسسات أكاديمية جامعية، أو أية مؤسسة تقوم بتحفيز القيم الدينية التي تبقى مهمة ومنها قيم الصدق التي تمثل ركيزة الأمان للمجتمعات. 

أهمية رغبة الإنسان بالإصلاح

الأستاذ أحمد جويد مدير مركز آدم لدفاع عن الحقوق والحريات:

الحقيقة إن موضوع الإصلاح والفساد يثير الشجون، والكلام في هذا الموضوع ربما يُغضِب البعض، أولا سبب الفساد هو المواطن العراقي، وحل هذه المشكلة تعود للمواطن العراقي نفسه، فالإنسان العراقي بصورة عامة لا يختلف عن أقرانه من بقية الشعوب على وجه البسيطة، بخصوص هذه النزعة الميالة إلى حب الفوضى وحب الفساد.

أضرب مثلا عن ذلك فالقضية ليست قضية مسؤول، أو قضية قانون، أو قضية إدارة، بقدر ما تتعلق بكونها متأصلة في نفس المواطن، توجد بعض دوائر الدولة حين تراجعها تجد ثلاثة أفراد بسطاء واقفين في طابور، إذا جاء شخص آخر معتد بنفسه كونه من النخبة أو من القيادة، أو هندامه نظيف، فلا يقف معهم في الطابور، مع أن عددهم ليس كبيرا، ومن الممكن خلال خمس دقائق يصل الدور لهذا الشخص، لكنه يسعى للبحث عن طريقة لكي يتجاوز أفراد الطابور، هذه هي نزعة العراقي، يحب الفوضى.

والفساد الإداري دائما يهدر كرامة الإنسان في هذا النظام الورقي، أو بقضايا الرشوة وغيرها، هذه القضايا التي تذل الإنسان البسيط الفقير، وتهدر كرامته إذا كانت عنده معاملة ومراجعة لدوائر الدولة، فإذا كان يستطيع الموظف أن ينجزها في يوم واحد قد يمرّ عليها شهر ولا ينجزها أو تضيع هذه المعاملة.

وإذا كان هناك حق للمواطن فيمكن ألا يحصل عليه بالصورة اللائقة، ويظل يتوسل بالقاصي والداني من أجل استنقاذ حقه، فالمعوق للإصلاح رغبة الإنسان أو رغبة المواطن بالإصلاح، وبالتالي يكون هذا الهدف بحاجة فعلية إلى هيكل إداري أفضل، ولدينا قوانين كثيرة، واللجوء إلى جهاز مراقبة ومحاسبة وإنفاذ للقانون كما ذكر المناقشون.

لكن نلاحظ أن قضية إنفاذ القانون اليوم لا يفيد الكثير من الجهات المتنفذة، والإرادة الخارجية أيضا لا تحب للعراق أن يكون دولة تسير نحو الإصلاح الإداري والإصلاح الاقتصادي والإصلاحي المالي، لأن السلب والنهب يعيش دائما في بيئة الفوضى، وبالتالي الفساد يفيد الأقوى، لذا فإن الأقوى هو الذي يمارس الفساد.

أما الإنسان البسيط فلا يمارس الفساد، بل الموظف الذي لا يخشى القانون هو من يقوم بالفساد كونه لديه من يسنده، فيأخذ الرشوة ولا يخشى القانون، ويسرق المال العام ويقول لنفسه (أنا لا يطبَّق عليَّ القانون)، وإلا الإنسان البسيط الضعيف لا يمكن أن يقوم بأعمال الفساد حتى لو كان محتاجا لأنه لا يجد أحدا يحميه من القانون.

لذا فإن معالجة هذه القضية تحتاج إلى عدة معالجات منها:

أولا: ارادة الإنسان في الإصلاح فعلا. 

ثانيا: القوانين الجيدة والمنظمة.

ثالثا: مؤسسات المراقبة الحقيقية الفعلية وليست مؤسسات ورقية وشكلية ولا نقصد حمل الأوراق والقيام بالجرد السنوي في عمليات روتينية.

رابعا: بعد المراقبة تأتي المحاسبة وإنفاذ القانون وتطبيقه على الذي تمت محاسبتهم دون استثناء.

وعندما يرى المواطن أن القانون يسري على الصغير والكبير، في تلك المرحلة يؤمن بالإصلاح، وأنا شخصيا أقول دائما لندع الإصلاح يبدأ من قوانين المرور، فإذا لاحظنا وجود انضباط فعلا في الشارع، يمكن لهذا الانضباط أن يصل إلى دوائر الدولة وإلى أعلى مستوى.

الآن نسمع أن مديرية المرور بدأت تطبق القانون من خلال ربط الكاميرات التي ترصد المخالفات وتسجل الغرامات، فإذا عرف السائق أن هذه الكاميرا هي التي ترصد المخالفة وهي التي تسجل الغرامة سوف يخشاها أكثر من فوج كامل لرجال المرور، فهذه الآلة هي جزء من منظومة إدارية تختلف عن النظام الورقي، فتدخل ضمن الحوكمة الإلكترونية.

لذا سوف يلتزم الإنسان بشكل ذاتي في الشوارع، فلا يسير بشكل مخالف (رون سايد) لأنه سوف تسجّل الكاميرات غرامة عليه، وإذا لم يرتد حزام الأمان خوفا من الغرامة، حتى في دوائر الدولة الخدمية في الإدارة، إذا كانت هذه الكاميرات مفعلة من خلال المراقبة والحوكمة الإلكترونية، لا يتعب المواطن من القضايا الروتينية.

بالتالي كما ذكر سماحة الشيخ مرتضى معاش أن الغاية ليست الدولة والسلطة، وإنما الغاية المواطن وكرامة المواطن، فلا فائدة من بناء سلطة ودولة وأمجاد وغيرها، والمواطن مهان، ليس عنده حقوق محمية، ويمكن لأبسط موظف أن يهينه، بينما إذا كان المواطن مرفَّها، كرامته محفوظة وحقوقه.

أحيانا نرى الناس يركضون نحو شيء معين بشكل جماعي للحصول على ذلك الشيء، لماذا يركضون؟، لأن العشرة الأوائل سوف يحصلون على السلعة أو الحاجة والأشخاص المئة الذين يصلون بعدهم لا يحصلون على شيء، وتضيع حقوقهم، لكن إذا الشخص رقم 100 ضامن حقه مثل الشخص رقم واحد، فلا يمكن أن يزاحم الآخرين ولا يذل نفسه، فالمطلوب إرادة ورغبة الإصلاح وقوة المؤسسات.

الإصلاح هو القاعدة والفساد هو الاستثناء

الأستاذ باسم حسين الزيدي مدير مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات:

سوف أناقش هذا الموضوع من وجهة نظري، وحسب ما أنظر إلى العنوان وإلى الأسئلة، في البداية الإصلاح هو القاعدة، والإفساد والمفسدين هو الاستثناء، وقد ذكر هذا الشيء القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت عليهم السلام، فدائما فطرة الإنسان تتبع الإصلاح والصراحة، وفطرة الإنسان تبتعد عن الفساد والمفسدين.

لذلك ورد في القرآن الكريم: (ولا تتبع سبيل المفسدين) سورة الأعراف، الآية 142. لذا ما أفهمه من كلمة الإصلاح، لا نذكر أنها تقترب من الفساد ولا نذكر إصلاح الفساد، لن كلمة الإصلاح باختصار هي عملية تقييم، وإعادة تحليل، وتطوير للذات أو الأفراد أو المؤسسات أو المنظمات، من أجل تطويرها وزيادة كفاءتها وعملها.

لذلك عندما تأتي مفردة الإصلاح مع أي مفردة أخرى، يعني كلمة الإصلاح إذا أخذناها كتقييم وتحليل وتطوير وإعادة عمل لهذه الجهة، اي معناها إعادة عمل وتقييم وتطوير للإدارة والسياسة والاجتماع وإلى آخره، هذا أولا.

ثانيا لا بأس أن أعيد ذكر أبرز الأسباب، هناك باعتقادي سببان بارزان يواجهان الإصلاح الإداري هما، أولا الحالة التقليدية التي يعيشها العراق، اي تقليدية المنظومة الإدارية، هذه التقليدية وكما ذكرها بعض الأخوة بأنها ورقية وقوانين قديمة وكذا، فهذا أبرز سبب يؤخر عملية التطور، لماذا؟، لأن التقليد في عمل المؤسسات ودور الوظائف لا تكون قادرة على فهم وحمل الأهداف التي من أجلها يمكن أن نطور العمل.

ما وجدناه قبل 2003، أن منظومة الإدارة بقيت نفسها تقليدية، وهي تمتد لمئات السنين، وبعد 2003، حيث العراق قادم على تطور اقتصادي وسياسي، في مقابل نفس الأداء الوظيفي والأداء المؤسساتي التقليدي وهذا لم يتمكن من حمل الأهداف الجديدة والنهوض بها.

الجانب الآخر هو منومة القيم الاجتماعية التي غالبا ما تكون محفزة في عملية الإصلاح الإداري، فإذا فشلت في فهم الإصلاح الإداري، وساعدت على عملية إصلاح الفساد بكل أنواعه، سوف تكون جزءا من الاخفاقات التي تعاني منها مؤسسات الدولة، والمؤسسات المدنية، هذه هي أبرز الأسباب كما أعتقد.          

هل توجد قوى وطنية تتبنى الإصلاح؟

الدكتور حسين السرحان أكاديمي وباحث في مركز الفرات للتنمية والبحوث الاستراتيجية:

أعتقد أن السبب الرئيس بالإضافة إلى ما تم ذكره في المداخلات يثير السؤال التالي، من هو الذي يقوم بالإصلاح ولأجل من؟، يعني عادة القوى الوطنية هي التي تقوم بالإصلاح، فاليوم مثلا نقرأ عن حزب العدالة والتنمية في تركيا لما استلم السلطة وحصل على منصب عمدة اسطنبول، وبعض المناطق والمسؤوليات الرئيسة والقيادية بالدولة.

كانت تركيا بلدا مديونا وهناك عجز في الميزان التجاري، وهنا مشاكل مادية وفساد، ومشاكل في البنية التحتية، الطرق والجسور وغيرها الكثير، لكن أتصور لأن القوى السياسية هي قوى وطنية ومستقلة في قرارها السياسي والإداري والقانوني والسيادة على مستوى الدولة. 

لذا تمكنت من بناء الدولة وتمكنت من التصدي وتمكنت من أن تقف بعد عشرين سنة في مواجهتها للولايات المتحدة الأمريكية، واصبحت دولة لها دورها في التوازنات الدولية والإقليمية.

في العراق من الجهة التي تقوم بالإصلاح، هل هناك قوى وطنية تقوم بالإصلاح، كلا لا توجد ونحن هنا نتكلم بصراحة، القوى السياسية لا تمتلك إرادة ولا شخصية القرار ولا يمكنها فرضها على أفرد الحزب، فكيف يمكنها أن تُخضع أفراد الدولة ككل؟، أو مؤسسات الدولة ككل؟، وإلا مرت سنوات وأكثر توفرت خبرات كثيرة في الجانب الإداري وساعدنا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمرجعيات والمظاهرات ثم ماذا؟

تقرير الصندوق الدولي عن الاقتصاد العراقي نلاحظ نفس توصيات 2004 تجدها هي نفسها في 2024، كأن السلطات بعيدة عن هذا الوضع، حسنا لمن تستمعون وكيف تصلحون؟، لا أنت تصلح من داخلك، ولا الشعب يؤثر عليك، ولا ضغوط المرجعية يؤثر فيك، ولا مؤسسات الدولة تضغط عليك، ولا المديونية تضغط عليك.

لذا فإن هذه القوى لا يمكن أن تشعر بالمسؤولية، ولا تمتلك الإرادة الوطنية المستقلة، في إصلاح الوضع، ثم لمن هذا الإصلاح الإداري والمالي؟، للشعب؟ هل الشعب يستحق هذا الإصلاح الإداري والمالي، وهم مستغلين الرصيف والمجاري والشارع، ويغسلون سياراتهم في الشوارع، وقريبا سوف نتحول إلى الدفع الإلكتروني.

حين يسافر العراقي للخارج يدفع مشترياته من الأسواق إلكترونيا وهو يستحسن ذلك، لكن حين يعود للعراق لا يرغب بالدفع الإلكتروني ويقول إنه غير صحيح، نعم نعرف أن هناك فساد وفاسدين ولكن هذه آلية يمكن أن تفيدنا مستقبلا من خلال توفير نهج معين أو آلية جيدة، وهكذا سوف نلاحظ المشاكل التي تصاحب الدفع الإلكتروني.

انعدام الثقة هي السبب في وجود مثل هذه التصرفات عند الشعب، لذلك لا يترك المواطن من راتبه دينارا واحدا في البنك لأن الثقة مفقودة بهذه التعاملات المالية، حيث تقتطع مكاتب أو منافذ دفع الرواتب عمولة تصل إلى 15000 ألف دينار، وهذا الأمر موجود في استلام الغرامات على المواطن في بعض دوائر الدولة.

التعليقات
تغيير الرمز