الصراع السياسي في العراق من الانقسام العمودي إلى الانقسام الأفقي

لا يخفى على أحد مدى الانقسام السياسي الموجود في العراق وطبيعة تأثيره على المجتمع العراقي، ولاسيما بعد عام 2003، الذي بدأ يتفاقم تدريجياً وبشكل كبيرة للغاية، ليس على مستوى المكونات والاختلافات المذهبية فقط، وإنما على مستوى المكون الواحد والاسرة الواحدة، وبدأ ينعكس سلباً على التعايش المجتمعي. ولو تتبعنا هذا الانقسام بعد التغيير السياسي الذي حصل بعد عام 2003 في عصر الديمقراطية، نرى بأن نشأته كانت عمودية، اي بمعنى انه كان انقساماً طائفياً بين مكونات الشعب العراقي، وقد تكلل هذا الانقسام بالحرب الطائفية التي عصفت بالمجتمع العراقي منذ عام 2005 او قبلها بقليل وحصدت ارواح الكثير من الابرياء بشتى انواع القتل، هذا الانقسام بدأ يتدحرج ككرة الثلج منذ المشاهد الاولى للإطاحة بنظام صدام حسين وتمت تغذيته بالخطاب الإعلامي والسياسي الطائفي، فضلاً عن السلوك السياسي الذي ر سخ الانقسام والطائفية في عملية بناء الدولة، ولم تضع الحرب الطائفية حداً للانقسام الطائفي، على الرغم من الخسائر البشرية والمادية الجسيمة التي تلقاها الشعب العراقي أنذاك. فالانقسام بقي عمودياً ولم يمتد افقياً إلى داخل المكونات حتى عام 2014، وهو التاريخ الذي اجتاح فيه تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" حدود العراق وتمكن من خلاله السيطرة على ثلث مساحته الجغرافية بعد انسحاب القوات الأمنية الحكومية من المدن وتراجعها إلى حدود العاصمة بغداد. وعلى الرغم من ان مرحلة مابعد الحرب الطائفية تميزت بالهدوء النسبي مقارنة بسابقتها، إلا أن الانقسام العمودي بدأ واضحاً من خلال الخطاب السياسي والإعلامي والاقصاء السياسي، فضلاً عن طبيعة التفجيرات الانتحارية وجغرافيتها، التي كانت تستهدف في الاعم الاغلب مناطق سكنية ذات ديموغرافية وطيف اجتماعي معين، التي افضت فيما بعد إلى الانفجار السياسي والاجتماعي من خلال الحرب ضد تنظيم داعش، تلك الحرب التي تخيلها الكثير من المتخصصين بانها الخارطة الجديدة للعراق والمنطقة بعدما صورها الإعلام بأنها حرب سنية – شيعية، نعم هي لم تخلوا من تلك المسميات، وهي تجسيد حقيقي للصراع العمودي السياسي والاحتقان المجتمعي بين المكونين منذ عام 2003 وحتى عام 2014، الا ان نهايتها كانت مختلفة عن بدايتها، وساعدت في رأب التصدع الطائفي بين السنة والشيعة او ما نسميه بالانقسام العمودي، بعدما انكوى الجميع بنيرانها. لكن على الرغم من ذلك، لم يصل المجتمع العراقي إلى ما يمكن ان نسميه بمرحلة الانحطاط والتشفي المجتمعي، فالانقسام العمودي، كان في كل مراحله عبارة عن صراع سياسي، على الرغم من مرارة الحرب الطائفية، التي دفعت بها وغذتها مجموعة عوامل وظروف كالسلوك السياسي للقوى السياسية العراقية وما ارستها سياسة القوات الأمريكية في العراق، فضلاً عن المواقف العربية والإقليمية من التجربة الديمقراطية؛ لهذا لا يمكن ان نسمي التعاطي المجتمعي أنذاك مع الانقسام العمودي بانه انحطاط قيمي في المنظومة المجتمعية العراقية بقدر ما هو امتداد للصراع السياسي وطبيعة التغيير السياسي الذي حصل بعد عام 2003، ولا نسمع او نشاهد "في تلك الفترة" ما نسمعه اليوم من مسميات واتهامات حاضرة في المشهد السياسي والاجتماعي أو ما نسميه بالانقسام الافقي.

فاذا كان الانقسام العمودي قد بانت ملامحه بعد التغيير السياسي، واخذت في الهبوط بعد دخول داعش وما رافقها حتى إعلان النصر عليه نهاية عام 2017، نستطيع ان نقول بان ملامح الانقسام الافقي بانت ملامحه منذ احتجاجات الصدريين والمدنيين عام 2015 واقتحامهم الخضراء بعد ذلك، مروراً بسيناريو انتخابات عام 2018 وعملية تشكيل الحكومة، حتى بلغت ذروتها في احتجاجات تشرين عام 2019، وما رافقها من اعتداءات وخطاب سياسي وإعلامي وسلوك سياسي حتى انتخابات العاشر من تشرين 2021 ومخاضات تشكيل الحكومة، وما افرزته من صراعات مسلحة وغير مسلحة ، والتراشق بين انصار التيار والإطار في الشارع والمنصات الإعلامية والافتراضية، حتى وصلنا إلى مرحلة ادنى ما يمكن ان نسميها بالانحطاط المجتمعي، ولاسيما بعد المواجهات المسلحة بين انصار الإطار والتيار الصدري في الخضراء، وطبيعة التشفي السياسي والإعلامي بالصدريين ومن دعمهم، بعد ان فشلوا في مشروعهم السياسي، وتمكن قوى الإطار التنسيقي من عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف السوداني لتشكيل الحكومة. 

لم يصل المجتمع العراقي طوال العشرين سنة الماضية التي تلت الإطاحة بنظام صدام حسين، إلى انحطاط قيمي كما وصل له في اخر اربع سنوات تقريبا، ولاسيما بعد احتجاجات تشرين، فاصبح المجتمع منقسم افقياً، وهذا الانقسام تسلل إلى كل مفاصل المجتمع والدولة ودوائرها السياسية والحكومية، فاصبحنا نسمع مختلف التسميات والتهم والنعت لمختلف شرائح المجتمع سواء في الشارع أو البيت والإعلام والمنصات الاجتماعية الافتراضية، فضلاً عن المؤسسات الحكومية، واصبح السب والقذف والقدح بالأعراض والاتهام بالعمالة والتخوين تغزوا الوسط الاجتماعي العراقي، واصبحت بعض المفردات كـ (الذيل، الجوكر، البعثي، الداعشي، المنحرف، الولائي، ابن السفارة وابناء الرفيقات... وغيرها) جزء من مسامعنا ومشاهدنا اليومية في كل مكان.  

إذا كانت الحرب على داعش، التي استنزفت امكانات البلد (البشرية والاقتصادية) بشكل خطير، كفيلة بتهذيب وتخفيف الانحطاط الذي تعرض له المجتمع جراء الانقسام العمودي بين مكونات المجتمع العراقي طيلة المرحلة التي سبقت اجتياح تنظيم داعش للعراق، فهناك خشية كبيرة من ان تكون ضريبة معالجة الانحطاط المجتمعي الذي تعرض ويتعرض له المجتمع العراقي جراء الانقسام الأفقي، كبيرة ومكلفة جداً على الصعيدين (السياسي والاجتماعي) ولاسيما في البيئة الشيعية التي اضحت بيئة خصبة لهذا الانقسام على كافة المستويات. 

وبما ان السلوك والخطاب السياسي والصراع على السلطة من البديهي جداً ان ينعكس سلباً على المجتمع، ويتم تصديره بمختلف الأليات، ولاسيما في ظل الانفتاح الفضائي الموجود والانتشار المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، من الممكن جداً ايضاً ان يتم تلافيه، ونقطة الشروع في ذلك، تتم من خلال المعالجة الحقيقية لكل ارهاصات السنوات الماضية بعقد اجتماعي وقانوني وسياسي، يتبنى الاسس الصحيحة في عملية البناء السياسي للدولة والنظام والعدالة الاقتصادية في توزيع الثروة وسلطة انفاذ القانون المبنية على اساس المواطنة. أما عكس ذلك، فان فرضية المواجهة المسلحة للانقسام الأفقي ستبقى قائمة، ولاسيما في ظل الانجرار المجتمعي لها بشكل ساذج جداً، وتغليفها بغلاف الثيوقراطية السياسية والحزبية الضيقة، كتلك المفاهيم التي يلجأ لها الإسلام السياسي الشيعي على صعيد السلوك السياسي أو تلك المباركات التي تأتي من رجال ومراجع دين من البيئة الشيعية (المحلية والإقليمية) التي عادة ما تزيد الانقسام الأفقي وترسخه بين المختلفين.

التعليقات
تغيير الرمز