حركة تشرين والإسلام السياسي الشيعي: قراءة في المقاربة السياسية والايديولوجية

اعتاد الكتّاب والمتخصصين وأصحاب الشأن على وصف انتفاضة تشرين بمفاهيم ومصطلحات مختلفة، إلا أن كاتب هذه السطور وصفها في احدى مقالاته بأنها انتفاضة، واضعاً المقاربة والاستنتاج العلمييَّن لهذا الوصف بنظر الاعتبار، بمقارنتها علمياً مع المفاهيم المرادفة أو المقاربة لها، إلا أننا في هذا المقال سنطلق عليها اسم حركة تشرين وسنضعها في خانة الحركات السياسية الناشئة؛ وذلك بعد دخولها معترك العمل السياسي بتشكيلها أحزاب سياسية واصرارها على خوض غمار المشاركة في الانتخابات العراقية القادمة، أو ما تسمى بالانتخابات المبكرة، التي كانت احد مطالب الحراك الرئيسة منذ انطلاقه في 1 تشرين 2019. 

نحاول في هذا المقال توضيح الإشكالية أو العلاقة الجدلية بين جيل تشرين وخطابها السياسي والإسلام السياسي الشيعي، وتسليط الضوء عليهما من خلال المقاربة السياسية-الايديولوجية، ولاسيما أن التجربة السياسية العراقية في العقدين الأخيرين، وتنامي ظاهرة تشرين واتساع نطاقها مؤخراً، وضعت الطرفين في كفَّتين متناقضتين، ولم نبالغ أذا قلنا بان كل طرف يريد نفي الآخر. 

بدايةً نعتقد وكما يعتقد الكثيرون بأن فشل الإسلام السياسي في إدارة الدولة طيلة تجربة ما بعد 2003، ربما وضعت أو تضع الإسلام السياسي الشيعي في مرحلة الما بعديات(*)، إلا أن غياب المنافسة السياسية الحقيقية في المشهد السياسي العراقي، وغياب الايديولوجية السياسية والشعبية التي من شأنها أن تنافس تيارات وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي طيلة المرحلة الماضية، وضعها في موضع مريح حتى ما قبل انطلاق تظاهرات تشرين نهاية العام 2019, لكن هذا الوضع اختلف "نوعاً ما" مع ولادة حركة تشرين، وبات الخوف والخشية يكتنف أغلب تيارات الإسلام السياسي من مستقبلها السياسي، ولاسيما أن ظاهرة تشرين خرجت عن المقاربة السوسيو – سياسية الشيعية، التي حكمت العقل السياسي الشيعي طيلة القرون الماضية، تلك المقاربة المحصورة بين الفهم الفقهي – السياسي، وهو تخّوف محفوف بمخاطر سطوة النظريات العابرة لتلك المقاربات، ولاسيما بعد الفشل الكبير الذي منيت به تجربة الإسلام السياسي في العراق. هذا التنافس يمثل الإشكال الجوهري في صلب صراع العلمانية والدين السياسي في العراق المعاصر، على الرغم من أن اغلب حراك تشرين لم يكتسبه هويته السياسية بعد، ولا يمكنه أن يكون البديل الحقيقي "حتى الآن" أو وضعه في خانة الحركات العلمانية الحقيقية، التي من شأنها أن تزاحم الإسلام السياسي الشيعي سياسياً أو ايديولوجياً بشكل حقيقي، ولاسيما أن الأخير يمتلك المال والسلاح والسلطة والإعلام، لكن من الممكن منافسته بشكل أكبر على المستوى الاجتماعي والشعبي، الذي بدروه سيؤدي إلى المنافسة السياسية بمرور الوقت؛ إلا أن هذه المنافسة بحاجة إلى وسائل ومقومات مالية وسياسية وإعلامية، فضلاً عن المقومات الثقافية.

إن الاختلاف في طبيعة التشكيل والتكوين والظروف العامة التي عاصرها كل من الإسلام السياسي وجيل تشرين، كان له الأثر الكبير في تنشئتهما وانعكست على طبيعة تفكيرهما وخطابهما، ولاسيما فيما يتعلق بعصر العولمة والانفتاح الفضائي والتطور التكنولوجي وغياب الايديولوجيات أو مرحلة مابعد الايديولوجيا، التي كان لها الأثر البالغ في تنشئة جيل تشرين. بهذا الاتجاه يكاد يكون العامل الايديولوجي "عصر ظهور الايديولوجيات" الذي بدأ تقريباً منذ منتصف القرن العشرين أو قبل ذلك، والشعور بالروح الإسلامية بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، والتمسك بالهوية الإسلامية ومناهضة النظام السياسي العراقي، والتمسك بالمباني الفقهية والمرجعية الشيعية سياسياً، القاسم المشترك بين كل تيارات الإسلام السياسي الشيعي، لكونها عاصرت مرحلة ما قبل وما بعد عام 2003؛ فهي متشبعة بالأيديولوجيا والانتماء الإسلامي المذهبي، ومعاصرة لجرائم النظام السياسي العراقي السابق؛ لذلك تجدها مؤمنة إلى حد الأفراط بنظرية المؤامرة، وكثيراً ما انعكس ذلك على سلوكها وخطابها السياسي والاجتماعي، على العكس من الطبيعة الديموغرافية (الفئوية والعمرية) التي يتصف بها الفرد التشريني، بكونهم فئات عمرية تتراوح اعمارهم بين 15 إلى 25 سنة، أي بمعنى أنها اجيال نشأت وترعرعت بعيداً عن عصر الايديولوجيات ونظريات المؤامرة، ولم تعاصر حقبة قمع حزب البعث ولم تدرك مشاهد الحرب الطائفية في العراق بعد عام 2005، ولم تتأثر بعصر الايديولوجيات الإسلامية، أو تتربى على الثقافة السياسية الإسلامية والانتماء السري لها، وخرجت "نوعاً ما" عن المقاربة الشيعية التاريخية التي حكمت وما زالت تحكم العقل الشيعي بشكل عام؛ لذا نراها "حركة تشرين" تناقض الإسلام السياسي الشيعي في السلوك والخطاب. ولهذا، فأن فهم هذه التباينات يعطينا تصور واضح على طبيعة الاختلاف الكبير بين جيلين مختلفين تماماً على مستوى التفكير والانتماء والإدراك، وأن العصر الراهن والتطور الحاصل على كافة المستويات زاد من حجم الفجوة والاختلاف بينهما، بين ما يمكن أن نسميه بالجيل الأول "جيل عصر الايديولوجيا والانتماء" والجيل الثالث أو الرابع "جيل مابعد الايديولوجيا" أو  "مابعد الحداثة"؛ ولذلك نرى بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي تخّلت عن هويتها في قبالة هذا التطور والتغيير الحاصل في أدبيات العمل السياسي على المستوى العالمي (محلياً ودولياً)؛ لمواكبة ما يحدث من تطور على المستوى العالمي وفي شتى المجالات. بموازاة ذلك، يرى محللو الإسلام السياسي بأنه يندرج في فئتين رئيسيتين: الأولى، تعتقد بان سياسات وممارسات الأحزاب السياسية لا تقودها الأيديولوجية بقدر ما تقودها الأحداث وأنها تعمل برد الفعل وتميل إلى التكيف مع كل الظروف والأعراف الخاصة بالبلد المعني، وأن خطابها الديني لا يتعدى بكونه كلام إسلامي فقط. وهذا ما شاهدنا في التجربة العراقية على مدار السنوات الماضية، أما الثانية تعتقد بأن الإسلاميين هم في الأساس أيديولوجيين، وأن أي تنازلات يقدمونها للمبادئ أو المؤسسات العلمانية هي تحركات تكتيكية بحتة؛ لذلك نعتقد بأن الوقوف على مكامن الاختلاف بين جيلين مختلفين تماماً على كافة المستويات، بين جيل الإسلام السياسي ومتبنياته وجيل تشرين وشعارته، قد يسهم في رأب التّصدع الحاصل في البنية الاجتماعية العراقية والبيئة الشيعية بالتحديد، أو يساهم على اقل التقادير في قبول أحدهما بالآخر سياسياً، مع اعادة ترشيد العملية السياسية العراقية بشكل عقلاني بعيداً عن المؤامرة والاتهام، وبما يتوائم مع التطورات الحاصلة والظروف الراهنة، ولاسيما أن بعض تيارات الإسلام السياسي الشيعي قادرة على تكييف نفسها، وبعضها قد تخلى عن بعض متبنياته السياسية والفقهية والايديولوجية قبالة الفلسفة الديمقراطية والليبرالية. وهذا من شانه أن يمّهد أو يؤدي إلى فتح طريق الحوار بين الطرفين في المستقبل على المستوى السياسي، على الرغم من حجم الاشكاليات التي تكتنف طبيعتهما التكوينية ونشأتهما السياسية، لكن تبقى الفرضيات البراغماتية تتحكم في طبيعة العمل والنشاط السياسيين، وتبقى فرضية إعادة الهندسة الاجتماعية في المجتمع او البيئة الشيعية خاضعة لكثير من المؤثرات والظروف. 

(*). في الإشارة إلى مرحلة مابعد الإسلام السياسي، الذي ظهر على انقاض مصطلح الإسلاموية وكان أوليفيه روا قد استخدم مصطلح ما بعد الإسلاموية, إلى جانب أوليفييه كاريه عام 1991، ومصطلح المابعديات  يندرج في إطار الحالة الغربية (الأمريكية – الأوروبية) بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المنطومة الاشتراكية − والإعلان عن نهاية الحرب الباردة, والابتهاج بإيدولوجية نهاية التاريخ التي تبشير بحتمية قدوم وسيادة الديمقراطية الليبرالية. للمزيد أنظر: مجموعة مؤلفين: اعداد محمد أبو رمان، مرحلة مابعد الإسلام السياسي: مرحلة جديدة أم أوهام ايديولوجية، فريدريش ايبرت, عمان – الاردان، 2018، ص24.

التعليقات
تغيير الرمز