اميركا لا تريد الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط

  تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق الكرة الأرضية تقلباً من حيث عدم الاستقرار السياسي والأمني عبر التاريخ، وبقدر هذا التقلب الذي أنهك شعوبها تزداد أهميتها الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية على الصعيد العالمي؛ لذلك كانت وما تزال تمثل محور الصراع والتنافس العالمي بين الامبراطوريات السابقة واقطاب النظام العالمي الحالي. فبعد الانسحاب البريطاني والفرنسي من المنطقة وتراجع دورهما في منتصف القرن الماضي، استوطنت القوة الأمريكية المنطقة تدريجياً واصبحت الامبراطورية الوحيدة التي تحكم قبضتها العسكرية وتفرض إرادتها السياسية على المنطقة، مستفيدة بذلك من بعض الانظمة السياسية التي افرزتها اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916. هذا التنافس الأزلي في المنطقة اخذ اشكال متعددة، مرة بحجة الاستعمار ومرة أخرى عن طريق الدفاع عن الحلفاء ومرة ثالثة عن طريق الدفاع عن القيم الإنسانية ومحاربة الشر وحماية الديموقراطية وحقوق الانسان، والشكل الأخير مّثل محور التنافس والصراع الدولي في العقود الماضية ابتداءً من نهايات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر. ولعل المتتبع للمشهد السياسي وطبيعة الدور الأمريكي في المنطقة، يكتشف بأن الفكر السياسي الأمريكي بعد نهاية الحرب الباردة مّثل قمة التطور البراغماتي الأمريكي على الصعيد الخارجي؛ وذلك من خلال سياسته في خلق الاعداء ومن ثم مقاومتها والتصدي لها، وهذا التنافس الدولي وعدم الاستقرار الذي تعانيه المنطقة لم يكن موجود، لو لم يكن هناك عدو مفترض دائم التنافس يهدد الوجود الأمريكي بغض النظر عن طبيعة هذا العدو سواء كان نظام سياسي أو جماعات متطرفة أو تهديد ايديولوجي. 

الولايات المتحدة الأمريكية طوال تواجدها السياسي والعسكري وتنافسها الاستعماري على مقدرات الشرق الاوسط، عمدت إلى اتباع سياسة خلق الأعداء بشكل أو بآخر حتى وأن كان صديقاً أو حليفاً سابقاً، أي بمعنى آخر، إن الأمريكان يرون ديمومتهم السياسية في المنطقة من خلال هذه السياسة (سياسة خلق الأعداء). وهذه السياسة اخذت اشكال وحجج مختلفة، فتارة بحجة الحرب على الإرهاب وتارة أخرى بحجة التصدي للتهديد الذي تمثله الانظمة المارقة والديكتاتورية في المنطقة على مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان (حسب الوصف الأمريكي)، وقد تمكنت الماكنة الإعلامية الأمريكية في تسويق تلك العبارات إلى الرأي العام العربي العالمي بنجاح كبير. 

إن القصد من هذه المقدمة المهمة، هو لتوضيح فكرة المقال وايصالها إلى القارئ بشكل واضح بعيداً عن الغموض، وكذلك من أجل التأكد من فرضية المقال وطرح التساؤلات الأتية: هل أن الولايات المتحدة الأمريكية تضع عملية الاستقرار السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط من ضمن أولوياتها الاستراتيجية بما يضمن مصلحتها الدائمة أم أنها تتعمد في خلق الأزمات السياسية والأمنية التي تضرب المنطقــــــة بين فترة وأخرى؟ 

وللتأكيد من هذه الفرضية يمكن الإشارة إلى بعض تجارب الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وهي كالآتي:

• التجربة العراقية:

بعد الاطاحة بنظام صدام حسين في عام 2003 كان بإمكان الولايات المتحدة أن تحافظ على بنية الدولة العراقية ومؤسساتها الاساسية، لاسيما الأمنية منها، ومن ثم العمل على خلق نظام سياسي جديد دون المرور بمرحلة الفوضى السياسية والاقتتال الداخلي بين مكونات الشعب العراقي. هذه التجربة لو تمت بالفعل لكان العراق اليوم أحد أهم اركان النظام الإقليمي في المنطقة، وربما يكون العامل الاساس والداعم الرئيس لعملية الاستقرار في المنطقة، إلا أن الإرادة الأمريكية كان لها رأي آخر في أن يكون العراق بيئة مناسبة لخلق التطرف والإرهاب وأن يكون مرتعاً لشتات التطرف الإرهابي في العالم، وأن يكون الحلقة الأضعف في النظام الإقليمي؛ لأن اضعاف العراق هو اضعاف لركن اساس من أركان الأمن الإقليمي واختلال كبير لسياسة التوازنات الإقليمية.

• التجربة السورية:

على الرغم من أن النفوذ الأمريكي ضعيف نوعاً ما على الأرض السورية مقارنة ببعض الأنظمة، إلا أن الثورة السورية التي انطلقت في العام 2011 تركت انطباعاً عاماً عند اكثر الناس بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد أن تضع حلا سريعاً للأزمة وكانت تريد أن تفاقم الوضع السوري عن طريق دعمها المطلق لفصائل المعارضة، وأن تعاملها مع هذه العناصر والحركات المتطرفة، كان خطأً متعمد؛ وذلك من أجل ارباك الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في سوريا والمنطقة بشكل عام، حتى اصبحت الأزمة السورية خطر يهدد أمن المنطقة بالكامل، والدليل على ذلك، ما حدث للعراق في العام 2014 عندما اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي  لثلث المساحة الجغرافية للعراق.  

• تجربة الاتفاق النووي وشيطنة إيران عالمياً:

على الرغم من الاختلاف السياسي بين طهران وواشنطن بعد العام 1979، إلا أن التوصل إلى عقد الاتفاق النووي بين الدول (5+1) وطهران في العام 2015 كانت نقطة تفاؤل كبيرة، اجتمع عليها اغلب المتخصصين بأن تساهم في خفض حدة التوترات السياسية بين الطرفين، وذهب تفاؤل البعض إلى إمكانية اعادة الانفتاح الدبلوماسي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما وأن طهران كانت جادة في إعادة خطوط الانفتاح السياسي مع واشنطن من خلال رفعها ليافطات (الموت لأمريكا) من الساحات العامة في طهران وباقي المحافظات الإيرانية، إلا أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مثل ضربة قوية للاتفاق وللجهود الدولية الباحثة عن استقرار منطقة الشرق الأوسط، لاسيما وأن هذا الانسحاب لم يبنى على قراءة واقعية أمريكية بقدر ما كان أرضاءً لأطراف أخرى لم تكن طرفاً في الاتفاق. 

هذا الاتفاق كان من الممكن أن يؤدي إلى فتح قنوات الاتصال السياسي والدبلوماسي بين طهران وواشنطن وأن يساهم بشكل كبير في إعادة استقرار المنطقة، إلا أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق والهجوم الشرس الذي تشنه الإدارة الأمريكية على إيران كانت بمثابة (القشة التي قسمت ظهر البعير). وهذا ما يعطينا رؤية واضحة بعدم جدية الولايات المتحدة في تثبيط عملية الاستقرار في المنطقة، لاسيما إذا ما قارنا الجهود الأمريكية الحالية وطريقة تعاملها مع الأزمة الكورية من اجل تفكيك الترسانة النووية لكوريا الشمالية وعقد سلام دائم بين الكوريتين في شبة الجزيرة الكورية وبين طريقة تعاطيها "الإدارة الأمريكية" مع إيران وأزمتها النووية وترسانتها الصاروخية وقضايا الشرق الاوسط بشكل عام. 

إذاً من خلال تسليط الضوء على هذه التجارب وغيرها من التجارب السابقة والحالية، ربما تكون أدلة كافية على صحة فرضية المقال، وربما تكون دليل كافِ على النوايا الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، القائمة على تأجيج مناطق الصراع بين فترة وأخرى والاعتماد على سياسة خلق الأزمات الداخلية والخارجية وترجيحها لسياسة الصراع والمواجهة مع إيران وتأجيج الصراع العربي – الفارسي على سياسة التفاهمات والحياد والتواصل السياسي والدبلوماسي بين واشنطن وطهران وبين طهران والدول الخليجية.  ولهذا فأن عملية الاستقرار في المنطقة صعبة جداً في ظل العداء الأمريكي الإيراني، وأن الدول الباحثة عن الاستقرار الداخلي عليها أن تعتمد على جهود فردية داخلية بعيدة عن التدخلات الأمريكية والإيرانية وابتعادها عن الصراع الإقليمي. 

التعليقات
تغيير الرمز