السـجـن والـتـمـدن - قراءة في التراث السياسي الاسلامي

كثيرا ما تتردد في اروقة الامم المتحدة، ومنظمات حقوق الانسان الدولية والمحلية، فضلا عن منظمات المجتمع المدني على المستويين الدولي والمحلي اوراق عمل ومشاريع قوانين وطروحات تهدف الى تأسيس مشروع " العقوبات البديلة"، واينما توجد مشاريع العقوبات البديلة ، او مشروع الاصلاح الاجتماعي الذي يهدف الى اعادة قراءة وتقييم الوضع الاجتماعي والنفسي للمجتمع عموما يوجد التمدن والرفاه ، في الاسلام الحقيقي لا توجد عقوبات أصلا ، كما لا يوجد "سجن" بمفهومه الاشمل واذا ما تتبعنا تطور مصطلح السجن لوجدنا ما يلي : كان في ايام دولة الرسول محمد " صلى الله عليه وآله وسلم" يسمى "مأدب" او "منفع" ، وتطور المصطلح ايام حكومة العدل الالهي ونقصد " دولة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام" الى " مهذب " و" مأدب" و" نافع" او " منفع " ، واستمر المصطلح بالتطور نحو الفلسفة الاصلاحية الحقيقية التي رافقت دولة الامام علي بن ابي طالب "عليه السلام"، ثم تحول اسم السجن أيام الامويين الى " محبس "، ومن ثم " مخيس " أيام العباسيين، ومن ثم اقترن اسم السجن بـ " المطمر " في أواخر أيام الدولة العباسية وفترة التسلط، هذا التطور ان دل على شيء انما يدل على طبيعة الانظمة الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، وما ارتبط بهذه الانظمة من نظريات اصلاحية او غير اصلاحية اشتملت على مجمل الاوضاع القائمة آنذاك. المأدب والمهذب والمنفع او نافع: وغيرها من المصطلحات او التسميات التي تطلق على السجن ، مصطلحات وتسميات ، اقترن وجودها مع دولة الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودولة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ، تحيلنا كل هذه المصطلحات الى طبيعة النظام الاجتماعي الذي كان سائدا آنذاك ، ويشير بوضوح الى مستوى راقي جدا من مستويات التقدم والتمدن والازدهار والرفاه النفسي ، فوجود السجن من عدم وجوده في مجتمع من المجتمعات ، او وجود عقوبات بديلة ، خفيفة او ثقيلة على النفس الآثمة او المجرم بتعبير قانوني دقيق من عدم وجودها ، يتوقف كل ذلك على مستوى التقدم والارتقاء والتمدن السائد في مجتمع معين دون غيره من المجتمعات. وبهذا فان الحالة المثالية والظروف المدنية الاستثنائية ، الظروف التي كانت سائدة أيام النبي صلى الله عليه واله وسلم ، او أبان حكم امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ، هي التي فرضت عدم وجود مجرمين ، واذا ما قدر لهم ان يوجدوا فان الوضع الاصلاحي لهم - مأدب أو مهذب او منفع - فسلامة المصطلح يعني خفة وطأة القانون ليس لضعفه او اضطراب في كابينة منفذيه ، انما بسبب غياب الاسباب المؤدية لارتكاب الجرم ، المساواة ، والعيش الكريم ، وحالة العدل والاعتدال السائدة آنذاك ، واختفاء التناحر والتمايز الطبقي والعرقي ، ونظام المحبة والمؤاخاة .... وغيرها من المرتكزات التنظيمية الهادفة لضمان سلامة المجتمع تعتبر صمامات أمان اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تحول دون تطبيق النظريات التأديبية السجن وما شاكل ذلك. المحبس او المسجن او السجن : ظهر اول استعمال لهذا المصطلح ايام معاوية بن ابي سفيان ، واقترن وجود هذا المصطلح في ادبيات المسلمين أيام الدولة الاموية ، وعلى ما يبدو فان ما يحمله هذا المصطلح من قساوة بالغة على حقوق الانسان وكرامته انما ناتجة عن طبيعة الوضع العام القائم آنذاك ، فالسوداوية والظلم والاضطراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الذي رافق تلك الفترة المظلمة ساهمت مساهمة فاعلة في غياب التمدن ، وتراجع الرفاه الاجتماعي ، وظهور التمايز الطبقي والقبلي ، وغيرها من احداث ساهمت في غرس محفزات الجريمة في جسد المجتمع القائم آنذاك ، فضلا عن طبيعة النظام السياسي القائم آنذاك المعتمد كليا على تصفية الخصوم باي شكل كان ، مما اقتضى وجود سجن او محبس او مكان لحبس شخص معين فترات مؤقتة او دائمية. تطور مصطلح السجن تطورات اخرى اهمها " مخيس " و" مطمر " والمخيس حسب اغلب المصادر مكان للحبس المشدد المرتبط بوضع استثنائي كان تكون زنزانة في مكان موبوء او ما شاكل ذلك من أوضاع مشددة محاطة بظروف استثنائية غير صحية، وكذلك الامر بالنسبة للمطمر الذي لا تختلف ظروفه واجوائه عن المخيس الا انه في طاموره او حفرة داخل الارض ، وداخل الحفرة تقع تلك البنايات الهائلة التي تمثل كابينة التعذيب آنذاك. ولا يختلف التطور الاخير في المفهوم خصوصا مفهوم " المخيس " او " المطمر " عن التحليل اعلاه فيشير المصطلح اشارة دقيقة الى نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي في مستوى متقدم من مستويات الاضطراب والتراجع ، وهذه الاوضاع العامة تفرض قواعد معينة للردع حسبما يتم الاعتقاد به من قبل المنظرين لهذه الدولة او تلك ، فوجود مصطلح المخيس آنذاك او المطمر يدلنا الى وجود مجرمين آنذاك لكن في منظور وموقع انتقامي صادر من الطبقة الحاكمة ، يستهدف بشكل مباشر الطبقة المحكومة ، ومخيس انما هي دلالة لفظية انتقامية تدل على سلوك انفعالي ، لا تأديبي صادر من الحاكم باتجاه المحكوم ، وربما هذا الظرف الاستثنائي يفسر الربط الدقيق بين وجود هذه المصطلحات بموازاة تأريخ الانظمة الدكتاتورية او الاستبدادية التي شهدتها المحطات والحقب التي مر بها المسلمون ، وهذا الامر يفسر لنا انتقال المصطلح من مأدب مرورا بمحبس انتهاءاً بمصطلح مخيس او مطمر ، فكل مصطلح من هذه المصطلحات اقترن وجوده برفقة نظام عام معبر عنه وهذه الاوضاع العامة فرضت مفاهيما و أدبياتها واخلاقياتها على الشعوب المحكومة فاقتضى تطور هذه اللفظة من الاتزان الى الاضطراب مأدب او مهذب اقترن بمرحلة سلم اجتماعي وتوازن طبقي وعدل الهي ساد الحقبة التي ظهر بها هذا المفهوم ، ومحبس اقترن وجوده مع تمادي الامويين في الملك العضوض الذي انتهى بفوضى واضطراب استهدف منظومة السلم الاجتماعي أيام الامويين ، وكذلك مخيس او مطمر الذي رافق او اقترن ظهوره بحقبة العباسيين ، ليحيلنا الى قراءة الماضي الاسود الذي تركته هذه الدولة التي انهارت فيها كما في الامويين منظومة القيم العامة ، التي رافق نظامها ارباك وارتباك أيديولوجي ، الامر الذي استدعى وجود مخيس او مطمر لتنفيذ استراتيجيات الحقد والتسلط على المحكومين . الاسلام دين التمدن والانظمة السياسية الاسلامية التي شهدتها احداث المسلمين ودونها تأريخهم هي التي اوجدت السجن ، والسجن في الاسلام حالة طارئة ناتجة عن اضطراب الاخلاقيات العامة للحاكم وليس المحكوم ، لان التمدن يعني قمة المثالية التي كان ولايزال هدفا ينشد تحققه المسلمون المعتدلون ، وكذلك فان الإسلام دين التحرر والانعتاق انه " الامان " والامن والرفاه والحرية والعدل والمساواة ، الاسلام دين الحقيقة دين التسامح واينما يوجد الاسلام المعتدل ، تختفي نظرية السجون لانتفاء واختفاء الداعي لوجودها اصلا ، ولنا تراث حافل بالمثل والقيم التي اوصلت المجتمعات الاسلامية الى هذه المرحلة من الارتقاء والتمدن والسمو الاخلاقي ، ومن هذه المنطلقات والاسباب انبثقت رؤية النبي الاكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم ، والامام علي بن ابي طالب عليه السلام بان يتحول السجن مهذب او مأدب لاصلاح ذات البين ، واعادة بناء النفس البشرية ، وارتأى الامويون ان يكون المحبس حلا لأزماتهم ، ووجد العباسيون ان المخيس هو الحل الامثل لاضطرابات دولتهم وعندما لم تجدي نفعا ظهر السجن تحت غطاء المطمر ليحل كل الاشكالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والمذهبية التي أخذت تقض مضاجع العباسيين لانحرافهم عن المسارات المنطقية العامة .
التعليقات
تغيير الرمز