واقعة مقتل مدير بلدية كربلاء: مسبباتها السياسية وانعكاساتها المجتمعية

صُدم المجتمع الكربلائي وعامة الشعب العراقي، بواقعة مقتل مدير بلدية محافظة كربلاء السيد عبير سليم الخفاجي يوم الثلاثاء الماضي، وطريقة الاغتيال وطبيعة تعاطي القوات الأمنية مع الحادثة؛ وذلك لما يتمتع به الشخص من تواضع ونزاهة في العمل، اسهم من خلاله في رفع الواقع الخدمي لمدينة كربلاء خلال السنة والنصف الماضية. وفي الوقت الذي استنكر فيه المجتمع العراقي عامة والكربلائي خاصة، حادثة الاغتيال وعبروا عن اسفهم بالخسارة التي لحقت بالمحافظة جراء هذه الجريمة البشعة، كشفت الواقعة ‘‘بذات الوقت‘‘ عن عمق المشاكل والازمات المركبة التي يعاني منها المجتمع العراقي على المستوى السياسي والمجتمعي. ولعل هذه الواقعة لها الكثير من المسببات السياسية والانعكاسات المجتمعية:

فساد مركب

إن واقعة الاغتيال كشفت عن طبيعة الفساد، الذي استشرى في مؤسسات الدولة بعد عام 2003، وطريقة تغول المفسدين في فسادهم، فضلاً عن طبيعة تعامل المؤسسات الحكومية معه وطريقة انفاذ القانون ضد المتجاوزين على الاملاك والاموال العامة للدولة، وطريقة استغلال المنصب والكسب غير المشروع. فهناك الكثير من الاراضي والمساطحات والعرصات التي استولت عليها الاحزاب والجماعات السياسية والمتنفذين ‘‘بطريقة أو بأخرى‘‘، ولاسيما في العشرة سنوات الأولى بعد الاطاحة بنظام صدام حسين. ولعل الكثير ممن استغلوا ضعف الدولة والقانون أنذاك، أصبحت لهم الرغبة والقناعة الكافية ‘‘بمرور الوقت‘‘ بأن هذه الاملاك، سيتملكونها بمرور الوقت؛ لذلك نراهم يتهّورون بالدفاع عنها بمجرد ابلاغهم بإزالة التجاوزات من قبل المؤسسات المعنية. ولعل حديث رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي مع القاتل – بعد حضوره في اليوم التالي على الحادثة في مسرح الجريمة – وكشفه عن الطريقة التي حصل من خلالها الجاني على قطعة الارض المتجاوز عليها، يوضح ذلك جلياً. لذلك عادة ما يوصف هذا النوع من الفساد، بأنه فساد مركب ومتعدد الاطراف ويأخذ عدة أشكال (افقية وعمودية). 

استغلال الفقر سياسياً

إن ظاهرة استغلال الفقر سياسياً، قد تكون ظاهرة حديثة في المجتمع العراقي، ولدت مع ميلاد العملية السياسية بعد عام 2003. نعم، قد تكون الظاهرة قديمة سياسياً وعانت منها بعض الدول الحديثة في تجاربها الديمقراطية الناشئة، إلا انها استطاعت أن تتغلب عليها بمرور الوقت. وكثيراً ما شكلت ظاهرة الفقر معضلة حقيقية أمام ترسيخ قيم الديمقراطية والقانون عبر التاريخ، وقد إشار لها بعض فلاسفة ومفكري العصور الحديثة، ويعد مونتسكيو من أشهرهم. إذ يقر بعدم التساوي بين الاغنياء والفقراء في الاصوات، وذهب ابعد من ذلك حينما دعا إلى حرمان الفقراء من الانتخاب؛ لانهم مسلوبي الإرادة الحرة، ولم ينتخبوا بوعي سياسي، وعادة ما يكونوا مقيدين باحتياجاتهم المادية، التي تفرض عليهم طبيعة الانتخاب؛ لذلك عادة ما يكونوا عرضة للاستغلال السياسي من الاحزاب والجماعات السياسية. وهذا ما شاهدنا فعلاً في العراق بعد عام 2003، إذ اصبحت الأحياء والقرى والارياف، وربما مراكز المدن ايضاً، هدف اساسي للأحزاب والجماعات السياسية العراقية في كل دورة انتخابية. فقد مثلت ظاهرة الاستغلال السياسي، القاسم المشترك بين تلك الاحزاب والقوى السياسية، فبعضها استغل ظاهرة العشوائيات انتخابياً، ولاسيما فيما يتعلق بأزمة السكن. كما حصل في محافظة كربلاء في الدورات التشريعية السابقة ‘‘والحادثة قد تكون معروفة لدى اغلب سكان المحافظة‘‘.

تغًّول عقلية اللادولة في المجتمع العراقي

إن الحديث عن قوى اللادولة، لا نعني به الجماعات والتنظيمات المسلحة التي تريد ان تشارك الدولة وتقاسمها في اداء وظائفها العامة أو في مجال احتكارها للقوة، بطريقة منافية لقيم الدولة، وإنما ما نقصده بذلك، كل المظاهر التي لا تحترم الدولة والقانون، وتريد ان تكون محل الدولة في اخذ الحقوق والواجبات. ولعل حادثة مقتل مدير بلدية كربلاء، والحوادث الأمنية السابقة وحالات الاغتيالات التي حدثت في المحافظة في الفترة الاخيرة بشكل خاص والبلد بشكل عام، فضلاً عن ما تقوم به بعض القبائل والعشائر العراقية في وسط وجنوب العراق من حوادث وسلوكيات بين بعضها البعض، سواء فيما يتعلق بتحديها لسلطة الدولة والقانون أو ما يتعلق منها بالاستعراضات المسلحة، أو الاخذ بالثأر بشكل شخصي من دون الرجوع إلى القانون، بالإضافة إلى بعض سلوكيات المجتمع الفردية او تلك المدعومة سياسياً أو حزبياً، تؤشر بشكل واضح على طبيعة تغول منطق اللادولة في العقل المجتمعي العراقي في السنوات الاخيرة. 

الانقسام المجتمعي

لعل اخطر ما كشفته جريمة مقتل مدير بلدية كربلاء على المستوى الاجتماعي، هو الانقسام المجتمعي بين طبقات المجتمع العراقي عامة والكربلائي خاصة. إذ لا يخفى على الجميع طبيعة الهجرة التي حدثت بعد عام 2003 من محافظات العراق، ولاسيما الجنوبية إلى محافظة كربلاء؛ لأسباب قد يكون اغلبها تتعلق بطبيعة العمل اليومي وصعوبة متطلبات الحياة المعاشية مقارنة بمدن جنوب العراق، التي افقرها صدام حسين على مدى ثلاث عقود، وازدادت فقراً بعد عام 2003، فضلاً عن طبيعة المحافظة دينياً وعقائدياً. بموازاة ذلك، كانت هناك اسباب امنية واجرامية، تداخلت مع بعض مسببات الهجرة إلى محافظة كربلاء كالمجرمين او المطلوبين للعشائر او للقانون في محافظاتهم، مما توحي لبعض سكان المحافظة وتعطيهم اعتقاد بان هشاشة الامن في المدينة، هي نتيجة طبيعة مترتبة على تلك الهجرة. لذلك نلاحظ مع كل خرق أمني في المحافظة، يتم توجيه اصابع الاتهام إلى المتجاوزين أو إلى ما يسمونهم باللهجة الكربلائية بــ "اللفوة"، وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بالتهم والتخوين والسب والقذف إليهم، مطالبين السلطات المحلية بتجريف بيوتهم وتهجيرهم إلى محافظاتهم، دون وضع الحلول المناسبة أو اتخاذ الاجراءات القانونية التي من شأنها أن تحد من طبيعة تلك المشاكل والتحديات. متناسين بأن المشكلة الرئيسة بذلك، ليست مشكلة محلية تتعلق بوضع محافظة كربلاء دون غيرها، وإنما هي مشكلة بلد بشكل عام، ولعل الوضع الأمني في مدينة كربلاء، أفضل بكثير من محافظات العراق الوسطى والجنوبية، ومن العاصمة ايضاً. لذلك نرى خطاب المجتمع الكربلائي الذي ترافق مع بداية الحدث – قبل ان تنكشف هوية المجرم الحقيقي وطبيعة سكنه وانتماءه– من تهم وسب وقذف وخطاب كراهية ضد المتجاوزين أو ما يسمى باللفوة في المحافظة، يعكس طبيعة الانقسام المجتمعي، الذي بدأ يترسخ مجتمعياً بشكل مثير للقلق ويزيد من حالة الانقسام والتصدع المجتمعي. 

ضعف المعالجة الأمنية

لعل من أهم الامور التي كشفت عنها جريمة قتل مدير بلدية كربلاء على المستوى الأمني، هو الترهل الأمني الكبير، ولاسيما على مستوى الشرطة المحلية. فعلى الرغم من اعدادها الهائلة ورواتبها الضخمة وعدتها الجيدة من اسلحة وعربات، إلا أنها ما تزال تفتقر إلى الحيوية والحرفية في التعامل مع الاحداث الأمنية (المفاجئة أو تلك التي تحدث بشكل دوري). وان من يشاهد شريط الفيديو للجريمة، الذي نشرته كل وسائل التواصل الاجتماعي، يؤشر الخلل الكبير في صفوف وتنظيم تلك القوات، فالمجرم تجاوز كل خطوط القوات الأمنية وارتكب جريمته بكل سهولة، وهرب من دون أي معالجة امنية. وهو ما يؤشر على الخلل الكبير في المنظومة الأمنية، ولاسيما تلك القوات المساكة بالأمن الداخلي للمحافظات. وقد نجد هناك من يبرر ذلك الضعف تحت مسميات الخشية من العرف العشائري أو الانتماء الحزبي او ما شابه ذلك، لكنه يتناسى بأن رجل الأمن مكلف بخدمة أمنية عامة اثناء الواجب، وحتى وان سلمنا بتلك الحجج، فذلك يعود بنا إلى أصل المشكلة التي يعاني منها العراق على المستوى السياسي فيما يتعلق بتفشي الفساد وقوى اللادولية (الجماعات المسلحة، العشيرة، الحزب)، التي تقف حائلاً أمام تطبيق سلطة انفاذ القانون بشكل متساوي، بعيداً عن كل المسميات والعناوين. 

بالمجمل، هناك شبه اجماع على أن واقعة مقتل مدير بلدية كربلاء، هي انعكاس للفشل والفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة العراقية، جريمة يتحملها المجرم بشكل خاص، والقوى السياسية بشكل عام؛ لكونها المسؤول الأول عن كل ما يجري في البلد من فساد وقتل وتهجير وعدم استقرار على كافة المستويات، وضياع لملامح الدولة الحقيقية والقانون والدستور وتغييب متعمد للمؤسسات الأمنية، التي اصبحت خاضعة كثيراً للانتماءات الفرعية. فضلاً عن ذلك، فأن المؤسسات المعنية على المستوى (المحلي والاتحادي) مطالبة بأن تتعامل مع المتجاوزين على المال العام بأطر صارمة وصحيحة، بعيداً عن التوظيف السياسي والانتخابي، بعد أن توَّفر لهم الايواء اللازم، وأن تتخذ اجراءات حقيقية ورادعة بحق المخالفين أو من المطلوبين أمنياً في محافظات أخرى، وأن تسعى بشكل فعلي إلى انفاذ القانون على الجميع، سواء المخالفين أو المتجاوزين، أو اولئك الذي يحَّرضون على خطاب الكراهية والانقسام المجتمعي بأي شكل من الأشكال؛ لكون الدستور العراقي كفل حق السكن لأي مواطن عراقي في أي مكان يرتئيه، بتعبيره: "الحق في السكن يطبق على جميع المواطنين في العراق دون أي تمييز مبني على العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين ولأي مواطن عراقي ذكر أو أنثى الحق في التملك دار سكن"، إذ نصت الفقرة (ثالثاً/أ) من المادة (23) من الدستور على أن "للعراقي الحق في التملك في أي مكان في العراق...". أما حفظ الامن وانفاذ القانون وكشف المجرمين والمطلوبين، فهي مهمة تقع على عاتق السلطات الأمنية المحلية والاتحادية بشكل عام، ولا شأن للمجتمع العراقي بذلك، سواء تقديم المساعدة في تطبيق القانون ودعم القوات الأمنية بالجهد الاستخباري.

التعليقات
تغيير الرمز