سعر الصرف في ظل العولمة - ارتفاع أم انخفاض؟

بدأ سعر الصرف يأخذ أهمية كبيرة على مستوى التجارة والاقتصاد العالميين، خصوصاً في ظل تنامي العولمة التي تدعو لإزالة الحدود وفتح الأسواق وإطلاق الحرية الاقتصادية والتجارية، مما يتطلب إدارة سليمة له تسهم في تقوية الاقتصاد في ظل العولمة.

ويبدو من خلال الواقع وبمرور الزمن، خصوصاً بعد انتهاء القطبية الثنائية في بداية التسعينات وبالتحديد عام 1991 حينما تفكك الاتحاد السوفيتي، إن الانتصار كُتب لحرية التجارة التي تنطلق من مبادئ الاقتصاد الحر.

تتمثل مبادئ الاقتصاد الحر في الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية والمنافسة وتحقيق الأرباح وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد ليكون القطاع الخاص هو المحرك الرئيس في الاقتصاد وفق قوى السوق المتمثلة بالعرض والطلب.

إن حرية التجارة هي النواة الأولى للعولمة التي تعني إزالة الحدود وفتح الأسواق وإطلاق الحرية لحركة الأموال والبضائع والخدمات والأيدي العاملة والأسعار ومن بينها أسعار الصرف.

 كُتب الانتصار لحرية التجارة وشيوع العولمة على إثرها، نظراً لانتصار الاقتصاد الحر وتفرده على المستوى العالمي، وذلك لقوة أغلب مبادئه المذكورة آنفاً بحكم انسجامها أكثر مع النفس البشرية.

 عكس حماية التجارة التي تنطلق من الاقتصاد الاشتراكي، الذي يعتمد الملكية العامة والدولة والتخطيط المركزي للاقتصاد، ونظراً لعدم انسجام مبادئه مع النفس البشرية كما انسجمت مع الاقتصاد الحر؛ تراجع(النظام الاشتراكي) كثيراً على المستوى العالمي وعلى إثر هذا التراجع تراجعت حماية التجارة أيضاً.

إن انتصار حرية التجارة والعولمة دفع لإيجاد متغيرات اقتصادية جديد تُحتم على دول العالم التعاطي معها بمرونة حتى تضمن بقاءها اقتصادياً على مسرح الاقتصاد العالمي أو على الأقل عليها أن تعمل لإعادة تنظيمها لضمان دخولها لمسرح الاقتصاد العالمي، ومن الأمور المهمة التي ينبغي العمل عليها هو سعر الصرف. وكما سيتضح أدناه.

إذ إن عدم التعاطي بشكل مرن من قبل الدول مع آثار حرية التجارة والعولمة يعني جعل اقتصاداتها خارج مسرح الاقتصاد العالمي وتكون اقتصادات منفعلة لا فاعلة وتابعة لا مستقلة وضعيفة لا قوية، وهذا ما لا ترغب به أي دولة تسعى ليكون اقتصادها قوياً، مما يضطرها للتعامل بشكل جدي مع المتغيرات الاقتصادية الدولية.

كما أسلفنا أعلاه، إن أحد المتغيرات الاقتصادية الدولية التي أخذت تحتل موقعاً مهماً على مسرح الاقتصاد العالمي هو سعر الصرف، حيث يوصف من جانب كونه مرآة للاقتصاد ويكون أداة للاقتصاد من جانب آخر. وفي الغالب يكون سعر الصرف حقيقي حينما يكون مرآة للاقتصاد ويكون وهمي حينما يكون أداة للاقتصاد وكما موضح أداناه. 

سعر الصرف مرآة للاقتصاد

يستخدم سعر الصرف كمرآة للاقتصاد ويُعبّر عنه بشكل حقيقي، إن كان ضعيفاً وإن كان قوياً؛ حينما يتحدد بشكل حر وتلقائي بفعل تفاعل قوى العرض والطلب على العملة في السوق بعيداً عن تدخل الدولة.

حيث يُعبّر سعر الصرف عن مدى كفاءة الاقتصاد، فكلما يكون الاقتصاد أكثر كفاءة كلما يستطيع أن يخفض سعر صرف عملته تجاه العملة الأجنبية والعكس صحيح، كلما يكون أقل كفاءة لا يستطيع أن يخفض سعر صرف عملته تجاه العملة الأجنبية ويكون في الغالب ذو سعر صرف مرتفع وهذا ما يضر الاقتصاد أكثر.

وبعبارة أوضح، إن الاقتصاد كلما يكون أكثر كفاءة يستطيع أن يجعل أسعار منتجاته ارخص نسبياً أمام المستورد وذلك من خلال تخفيض سعر صرف عملته وهذا ما ينفع الاقتصاد والعكس صحيح، كلما يكون الاقتصاد أقل كفاءة تكون أسعار منتجاته أغلى نسبياً أمام المستورد وذلك بفعل ارتفاع سعر صرف عملته أمام المستورد وهذا ما يضر الاقتصاد.

سعر الصرف أداة للاقتصاد

حينما يكون الاقتصاد ذو كثافة سكانية ولا يستطيع، بشكل حر وتلقائي من خلال قوى السوق؛ أن يخفض سعر صرف عملته، في هذه الحالة تتدخل الدولة عن طريق البنك المركزي لخفض سعر صرف العملة الوطنية لتحقيق أهداف اقتصادية كالنمو الاقتصادي وتخفيض البطالة كما هو الحال في الصين، وهذا التدخل دفع بالولايات المتحدة الأمريكية لمهاجمة الصين لان مزيد من التدخل لخفض سعر صرف العملة الوطنية يعني مزيد من التوسع الاقتصادي الصيني عالمياً وهذا ما يقلص من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى الاقتصاد العالمي.

 وفي المقابل حينما يكون الاقتصاد ضعيفاً لكنه غني بالموارد الطبيعية، ولا يستطيع أن يرفع سعر صرف عملته، بشكل حر وتلقائي بفعل قوى السوق؛ في هذه الحالة ستتدخل الدولة أيضاً عن الطريق البنك المركزي لتحقيق أهداف نقدية كمحاربة التضخم والحفاظ على الاحتياطي الأجنبي من الانخفاض كما هو الحال في العراق حينما تدخل عبر نافذة العملة للتحكم بسعر الصرف لتحقيق الأهداف المرجوة.

في كلا الحالتين، كثافة السكان لدى الصين وضعف الاقتصاد وزيادة الدولار النفطي في العراق، يُعد سعر الصرف سعر وهمي لا حقيقي لأنه تحقق بفعل تدخل الدولة لا بفعل قوى السوق، أي إنه أُستخدم كأداة لا كمرآة؛ وبالنتيجة فهولا يُعبر عن مدى كفاءة الاقتصاد بشكل حقيقي. 

وتجدر الإشارة إلى إن سعر الصرف ممكن أن يُستخدم كأداة لمرحلة مؤقتة من أجل مساعدة الاقتصاد في بناء ذاته حتى يستطيع أن يعمل بشكل ذاتي وتلقائي بعيداً عن تدخل الدولة وفي هذه اللحظة تنسحب الدولة ليصبح فيما بعد كمرآة للاقتصاد كما اتضح أعلاه.

سعر الصرف في ظل العولمة

كما أشرنا أعلاه، إن العولمة تعني إزالة الحدود وفتح الأسواق وإطلاق الحرية لحركة الأموال والبضائع والخدمات والأيدي العاملة والأسعار ومن بينها أسعار الصرف.

إن إزالة الحدود وفتح الأسواق وإطلاق الحرية التجارية بين دول العالم يعني هناك مزيد من التنافس الاقتصادي عالمياً، وكل دولة تريد أن تكون هي مركز الثقل في الاقتصاد العالمي لكن هذا ليس بالأمر اليسير ما لم تكن هناك مقومات حقيقية تؤهلها لاحتلال مركز الثقل، ومن أبرز هذه المؤهلات الحقيقية هي اقتصاد كفؤ يستطيع أن ينتج منتجاته وخدماته بأقل ما يمكن مقارنةً بمنتجات وخدمات الدول الأخرى حتى يستطيع أن يجعل سعر صرف عملته أقل من أسعار صرف العملات الأجنبية.

إذ إن سعر الصرف كلما كان منخفضاً يعني إن منتجات هذا الاقتصاد هي الأنسب سعراً والأفضل جودةً، ونظراً لبحث المستهلك المستورد عن المنتجات الأنسب سعراً والأفضل جودةً، يعني إن الطلب الدولي على منتجات هذا الاقتصاد سيرتفع وترتفع معه صادرات هذا الاقتصاد لأغلب دول العالم وبهذا يكون هو الاقتصاد الأكثر تنافسيةً عالمياً.

هذا ما يعني إن سعر الصرف المنخفض في ظل العولمة هو المطلوب وتسعى أغلب الدول لتحقيقه سواء بفعل تدخل الدولة أو بفعل قوى السوق، ولكن سعر الصرف المنخفض المتحقق بفعل تدخل الدولة لا يتسم بالاستدامة لأنه مجرد أن تتخلى الدولة عن تخفيض سعر الصرف لسبب من الأسباب سيعود للارتفاع وهذا ما يؤثر سلباً على الاقتصاد الوطني في ظل العولمة.

بينما سعر الصرف المنخفض المتحقق بفعل قوى السوق يتسم بالاستدامة لأنه يعبر عن الاقتصاد بحد ذاته، أي إن قوى السوق تعمل بشكل ذاتي وتلقائي، وهذا ما يجعل الاقتصاد أكثر كفاءة وقدرة على أن ينتج منتجاته وخدماته بتكاليف وبأسعار منخفضة تنعكس بشكل تلقائي على انخفاض سعر صرف العملة الوطنية، وهذا ما يصُب في مصلحة الاقتصاد الوطني في ظل العولمة، لان انخفاض سعر صرف العملة يشجع المستهلك المستورد على زيادة الاستهلاك والاستيراد لمنتجات هذا الاقتصاد، كما أسلفنا؛ وهذا ما يعني زيادة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتخفيض البطالة بشكل تلقائي لا بفعل تدخل الدولة كما فعلت الصين.

الخلاصة

أن تعمل الدولة في العراق على تقوية الاقتصاد العراقي، من خلال تفعيل قوى السوق؛ ليكون قادراً على العمل بشكل ذاتي وتلقائي، ويستطيع أن ينتج منتجاته وخدماته بتكاليف وأسعار منخفضة حتى تؤدي إلى انخفاض سعر صرف العملة الوطنية ليزداد الطلب الدولي عليها وتزداد صادراته ويتحسن النمو الاقتصادي وخلق المزيد من فرص العمل وتخفيض البطالة التي يعاني منها في الوقت الراهن بشكل كبير.

التعليقات
تغيير الرمز