دور البنية التحتية في الاستقرار الاقتصادي

نظراً لما تشكله البنية التحتية كجزء كبير من المناخ الاستثماري وذات تأثير مهم على الاقتصاد برمته، فهي تمارس دوراً كبيراً في الاستقرار الاقتصادي تحققاً أو غياباً.  

ما هي البنية التحتية؟

هي مجموعة من الوسائل التي تستخدم لتوفير الخدمات الأساسية التي يحتاجها المجتمع ولا يستطيع التخلي عنها، ولها انعكاسات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وإن إي اختلال يصيبها يعني ارتفاع معاناة المجتمع بشكل كبير، كونها تكون في المجتمع كالزيت بالنسبة للعجلة حيث تجعل حركته أكثر انسيابية وأكبر سرعة وأقصر وقت وأقل كلفة. 

حيث تشمل البنية التحتية شبكات مياه الشرب والري، وأنظمة الصرف الصحي التي تحسّن الصحة، والطرق والجسور التي توفر الوصول إلى الأسواق، والمطارات التي تُقرب المسافات بين الدول وتقتصر الوقت، بالإضافة إلى محطات الطاقة الكهربائية التي تضيء المنازل وتوفر الطاقة للصناعة، وشبكات الانترنيت والهاتف المحمول والتي تساعد في انتشار الاتصالات وشيوعها وغيرها، ولا تقتصر على هذه فحسب بل تذهب إلى أبعد من ذلك لتشمل المدارس والجامعات والمستشفيات وغيرها. 

وبهذا الصدد، قال رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس: "لا تقتصر البنية التحتية القادرة على الصمود على الطرق أو الجسور أو محطات توليد الطاقة الكهربائية وحدها. إنما تتعلق أيضا بالبشر والأسر والمجتمعات المحلية الذين تشكل هذه البنية التحتية الجيدة شريان حياة لهم لينعموا بصحة أفضل وتعليم أفضل وسبل عيش أفضل. إن الاستثمار في بنية تحتية قادرة على الصمود يتيح فرصا اقتصادية للناس"  

ما هو الاستقرار الاقتصادي؟

هو الحالة التي يكون الاقتصاد فيها لا يعاني من تقلبات الدورة الاقتصادية، بمعنى آخر لا يعاني من الركود ولا يعاني من التضخم، إذ إن غياب الاستقرار الاقتصادي يعني مزيد من البطالة أو ارتفاع المستوى العام للأسعار أو كلاهما كما حصل في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم والذي أُطلق عليه "التضخم الركودي".

أهمية البنية التحتية؟

تأتي أهمية البنية التحتية من الآثار التي تتركها على البلد بشكل عام والاقتصاد بشكل خاص، وبالتحديد مسألة النمو الاقتصادي وتوليد الفرص، لانعكاسها بشكل واضح على الاستقرار الاقتصادي، بل اعتبرها البعض مفتاح النمو الاقتصادي وفرص العمل، إذ لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي وتوليد الفرص تنعكس على الاستقرار الاقتصادي، دون تقدم ملموس في جودة البنية التحتية فضلاً عن وجودها في بداية الأمر. 

فأطلق البنك الدولي تقريره تحت عنوان " شريان الحياة: فرصة البنية التحتية المرنة" في 19/6/2019 للدلالة على أهميتها ويعدُّها "جوهر الحياة وركيزة سبل كسب العيش، ويمكنها تحسين عمل المدارس والمستشفيات ومؤسسات الأعمال والصناعة، وكذلك فرص الحصول على الوظائف وتحقيق الرخاء" كما يقول رئيس مجموعة البنك الدولي.

لماذا وكيف تؤدي إلى الاستقرار الاقتصادي؟

كما أسلفنا بدايةً، إن البنية التحتية تمارس دوراً كبيراً في الاستقرار الاقتصادي تحققاً أو غياباً ما دامت إنها تشكل جزءاً كبيراً من المناخ الاستثماري. ولكن السؤال المطروح لماذا وكيف تمارس هذا التأثير؟ تمارس هذا التأثير لأنها تنعكس على ثقة المستثمر، من خلال قنوات كُلف الإنتاج والأسعار، ومستوى الأرباح أخيراً، ارتفاعاً أو انخفاضاً، التي تكون محط أنظار وثقة المستثمرين. وان آلية هذا التأثير تكون إيجابية وسلبية وبالصيغة الآتية

عندما تتوفر البنية التحتية في بلدٍ ما بشكل متكامل(مترابطة) وذات جودة عالية وبأسعار مناسبة ستنعكس، بلا شك، على انخفاض كلفة إنتاج تلك السلع والخدمات وهذا ما يؤدي إلى انخفاض أسعارها وزيادة الطلب عليها فيرتفع مستوى الأرباح فيكون هذا البلد هو محط أنظار وثقة المستثمرين فيه فيزداد حجم استثماراتهم فيه، مما يعني خلق مزيد من فرص العمل وزيادة معدل النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي أخيراً. 

 ويحدث العكس تماماً أي في ظل غياب أو سوء البنية التحتية من حيث عدم تكاملها أو رداءة جودتها أو ارتفاع أسعارها سترتفع كلف إنتاج السلع والخدمات ثم ارتفاع أسعارها وانخفاض الأرباح فتنخفض ثقة المستثمرين بهذا البلد فينخفض حجم الاستثمار ويتبعه غياب الاستقرار كنتيجة لزيادة البطالة وانخفاض النمو الاقتصادي.     

 كيف يتم تحقيق البنية التحتية؟

شهدت أدوار القطاع العام والقطاع الخاص في تنمية البنية التحتية تطوراً كبيراً على مر الزمن، ففي الوقت الذي يعود فيه تقديم خدمات البنية التحتية وتمويلها من قبل القطاع الخاص إلى القرن التاسع عشر، ساد على النطاق العالمي طيلة الجزء الأكبر من القرن العشرين اتجاه نحو اضطلاع القطاع العام بتطوير البنية التحتية وكثيراً ما أُممت شركات القطاع الخاص المتعلقة بالبنية التحتية أو أُجبرت للحصول على امتياز من الحكومة بل ووصل الأمر إلى تكريسها في الدستور.

لكن سرعان ما بدأ الاتجاه العكسي نحو مشاركة القطاع الخاص والمنافسة في قطاعات البنية التحتية في أوائل ثمانينات القرن العشرين، ومن العوامل التي حفزت على هذا الاتجاه، التطور التكنولوجي والتوسع في أسواق راس المال المحلية والدولية بالتزامن مع مستوى المديونية وقيد الموازنة الذي يحد من قدرة القطاع العام على تلبية احتياجات البنية التحتية .

يمكن تحقيق البنية التحتية من خلال ثلاثة طرق وهي القطاع العام أو القطاع الخاص أو الشراكة بينهما، وإن لكل من هذه الطرق إيجابيات وسلبيات لا يتسع المقام لتناولها، وتبقى أفضل هذه الطرق، هي الأخيرة، الشراكة بين القطاعين في إنجاز البنية التحتية وفق ترتيبات عديدة    يمكن اختيار ما هو مناسب منها لكل مرفق من مرافق البنية التحتية. 

البنية التحتية في العراق

ففي الوقت الذي يعاني فيه العراق من الانهيار شبه الكامل لبنيته التحتية الذي انعكس على ارتفاع محرومية الأسر من خدماتها، حيث بلغت نسبة محروميتها 58.95% في عام 2010، وتُعد هذه النسبة مرتفعة جداً بالمقاييس العالمية  فكم ستبلغ نسبة المحرومية في ظل ارتفاع وتيرة الإرهاب وانخفاض أسعار النفط في عام 2014 مع استمرار تزايد الحجم السكاني على اعتبار إن العراق من أعلى البلدان في النمو السكاني؟! إن ذلك الانهيار كان لأسباب متراكمة ومترابطة يغذي بعضها البعض الآخر، أبرزها الحروب المتواصلة والحصار الاقتصادي والصراع الداخلي والفساد الحكومي الذي يحتل العراق بموجبه المرتبة 168 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي.

يعاني اقتصاده من ثنائية النفط والدولة التي انعكست بشكل سلبي على البنية التحتية ومن ثم على الاستقرار الاقتصادي أخيراً، إذ ان اعتماد الاقتصاد على النفط وإهمال القطاعات الأخرى يعني توليد مزيد من البطالة التي أخذت تشكل أرقاما مخيفه من 10% إلى 40%، خصوصاً وإن صناعته صناعة كثيفة رأس المال وليس كثيفة العمل، حيث يعمل 1% من العراقيين في قطاع النفط مقابل عائداته التي تشكل 99% من الإيرادات الحكومية  هذا من جانب. ومن جانب آخر، إن تذبذب أسعاره وهيمنة الدولة عليه يعني انخفاض إيرادات المالية العامة وتخصيصات البنية التحتية بشكل خاص والتخصيصات اللازمة لتحسين المناخ الاستثماري بشكل عام. علماً إنها (البنية التحتية) تشكل جزءاً مهماً من المناخ الاستثماري الذي يحتل العراق فيه المرتبة 171 من أصل 190 دولة عام 2019 .

إنجازها بلا نقود

يشكل إنجاز البنية التحتية في العراق مفتاح تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وبما إن مالية الدولة تعتمد بشكل كبير جداً على الإيرادات النفطية التي تتسم بالتذبذب وانخفاض أسعارها ويبدو إن تحليق أسعارها نحو الارتفاع بات أمراً غير محتوم لأسباب تتعلق بالبدائل، أصبح من غير المنطق الاعتماد على هذا الخيار ولابد من التفكير في خيارات أخرى وأهما هو الإنجاز بلا نقود ولكن كيف؟ 

وذلك من خلال قيام الدولة بفسح المجال أمام القطاع الخاص وبالأخص الأجنبي وذلك لتوطينها من جانب وتلافي آثار السلبية التي تحصل في حال توجيهيها نحو قطاعات أخرى وجعل القطاعات الأخرى فرصة للقطاع الخاص الوطني.

ويمكن أن تكون هناك شراكة بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشاريع البنية التحتية كما ذهب إلى ذلك البنك الدولي في السنوات الأخيرة وبالخصوص التمويل الإسلامي للشراكة بين القطاعين في البنية التحتية على اعتبار ان هذه الأخيرة تتطلب استثمارات كبيرة يصفها البعض على انها "تكلفة غارقة لا يمكن استردادها" بمعنى إنها استثمارات طويلة الأجل ومحفوفة بالمخاطر.

 وبما ان التمويل الإسلامي قائم على فلسفة تقاسم المخاطر، أي يجب على الممول مشاركة بعض أشكال المخاطر. وينبغي أن يعزز التمويل الإسلامي التنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال خلق أصول حقيقية، وليس فقط عن طريق توليد معاملات مالية فقط.

 لذا، تعد مشاريع الشراكة بين القطاع العام والخاص الخاصة بالبنية التحتية مناسبة للتمويل الإسلامي، فيستلزم تمويل هذه المشروعات مستوى معين من المشاركة في المخاطرة مع أطراف المشروع الأخرى، وتخدم المشاريع الغرض الأكبر من التنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال خلق أصول أساسية في المصلحة العامة .

وهناك أمثلة كثيرة  تم فيها شراكة التمويل الإسلامي مع التمويل التقليدي ويمكن الإشارة إلى بعضها، فقد استطاعت إدارة الصحة المتكاملة في تركيا تحسين مواردها التمويلية بحشد المقرضين التقليديين والممولين الإسلاميين لتحديث نظام الرعاية الصحية في البلاد. ويعد مطار الملكة علياء الدولي بالأردن مثالا آخر على أن الجمع بين التمويل الإسلامي التمويل التقليدي أتاح بناء مطار دولي أصبح مكوناً رئيسياً في شبكات النقل والتجارة والسياحة للمملكة وأول شراكة ناجحة بين القطاعين العام والخاص للمطارات في الشرق الأوسط.

التعليقات
تغيير الرمز