اقتصاد الأردن و" الاصلاح الهيكلي"

        يوصف اقتصاد الاردن بانه فقير بالموارد الطبيعية وهو كذلك على الاقل في الطاقة والمياه، وفي حين تستنزف استيرادات الطاقة جزءا مهما من موارد العملة الاجنبية فان محدودية المياه تقيد الانتاج الزراعي، ويتعرّض الاردن الى دورات جفاف. وايضا يبقى انتفاعها من الفوسفات والبوتاس محدودا، إذ يتقلب الطلب عليها وتتغير اسعارها كثيرا ولا تشكل مصدرا كافيا للعملة الاجنبية. والأردن مثل دول اخرى متوسطة الدخل لم تتمكن من التنمية الصناعية لتتجاوز قيود الموارد الطبيعية، على غرار النموذج الياباني، تبقى في حالة توتر بين محدودية امكاناتها الاقتصادية من جهة والتطلعات الاستهلاكية للفئات المتوسطة واحياجات الفقراء من جهة اخرى.

   ان اقتصاد الأردن اقتصاد خدمي وسوقه صغير ويتأثر كثيرا بدول المنطقة، وازماتها وتغير اوضاعها سلبا وايجابا. ويعتمد على السياحة والتحويلات والمساعدات من الدول الأخرى. وقبل حرب الكويت تعرض الاردن الى ازمة اقتصادية خانقة وبعد نقص التحويلات وتصاعد الدين دخل في اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، واضطر الى اجراء تعديلات قاسية منها تخفيض قيمة العملة بنسبة كبيرة وصلت 50 بالمائة عام 1989، وايضا، خفض أو ازالة الكثير من الاعانات، وأجبرت الاحتجاجات القوية، آنذاك، الدولة على التراجع وابقت على الاعانات للسلع الاساسية، وما ان اخذ الأقتصاد بالتحسن حتى بادرته ازمة الكويت عام 1990. إذ تقلصت التحويلات والمساعدات نتيحة للموقف السياسي للأردن الى جانب العراق في حينه. وعاد الى الاردن حوالي 300 ألف من العاملين في الخليج، على إثر تلك الأزمة، ويرى البعض انها كانت ايجابية في الامد البعيد اذ ازداد عرض القوى العاملة الماهرة فضلا عما اعادوه معهم من الاموال.  ولأن الاردن شريك تجاري للعراق الذي كان سوقا رئيسية للزراعة والصناعة الاردنية وخدمات النقل، فقد تضرر ايضا من الحصار الذي فُرض على العراق تلك السنوات، ومع ذلك تمكن الأردن في النهاية من تجاوز الأضطراب الذي اصابه.

  وبعد الغزو الامريكي للعراق تعرض اقتصاد الاردن الى صدمة ودخل في اتفاقية جديدة مع الصندوق عام 2004، ثم تحسن الأقتصاد وارتفع النمو، وتعثر من جديد بعد عام 2008، حتى انتهى الى الأزمة الحالية.

   ولا شك ان الأقتصاد الأردني تأثر سلبا من الدمار الشامل الذي اصاب سوريا في الحرب واللاجئين، وتزامن الحرب على الأرهاب في الجزء الغربي للعراق المحاذي للأردن مع تقلص الإيرادات النفطية، واضطراب المنطقة عموما. الأردن في السياحة والتجارة والأستثمار ينفعه كثيرا السلام والأزدهار والأستقرار في الدول المجاورة. 

الأبعاد البنوية للأزمة الأقتصادية:

     وحسب أحدث بيانات نشرها البنك الدولي وصل سكان الاردن، من المواطنين وغيرهم، عام 2016 الى 9.5 مليون نسمة تقريبا، وربما 40 بالمائة منهم من جنسيات اخرى حسب تقدير الامم المتحدة، عاملين اجانب او لاجئين ...  وكان حجم السكان عام 1960 اقل من مليون نسمة، 932 ألف، وبذلك يكون المعدل السنوي لنمو السكان 4.2 بالمائة، في تلك المدة الطويلة، وهو مرتفع جدا، وتتضمن هذه الخاصية السكانية تدهورا سريعا في متوسط الدخل للفرد ومستوى المعيشة عند توقف النمو الأقتصادي. وايضا يقتضي المعدل المرتفع لنمو السكان الحفاظ على حجم كبير للأستثمار السنوي في البناء التحتي وهي المهمة التي تقع على عاتق الحكومة.  والناتج المحلي الإجمالي في الأردن 38.8 مليار دولار، ليكون متوسط الناتج المحلي للفرد 4098 دولار عام 2016 وبذلك يكون الأردن ضمن الشريحة الدنيا لفئة الدول متوسطة الدخل. 

   وبعد انتعاش الأقتصاد بين عامي 2004 و2008، بمعدل نمو سنوي يقترب من 8 بالمائة فلقد انخفض معدل النمو منذ عام 2009، إذ لا يتجاوز 2.6 بالمائة سنويا بالمتوسط، وتوقعات نمو الاقتصاد الأردني متواضعة في المستقبل القريب. 

    ولم يتحسن الأستهلاك الخاص وربما انخفض قليلا بالمتوسط للفرد منذ عام 2016. وتضرر النشاط الأستثماري في عامي 2015 و2016 بالانخفاض بنسبة 8 بالمائة و7 بالمائة على التوالي، وكذلك الصادرات. وبلغ عجز الحساب الجاري الخارجي بين 8.5 بالمائة الى 9.3 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي في السنوات الأخيرة والمتوقع لعام 2019، مع انخفاض الأحتياطيات الدولية للبنك المركزي رغم انها لا زالت فوق مستوى الخطر. بيد ان الضغوط في سوق الصرف مستمرة مع ميل للدولرة.  ويقدّر الدين الحكومي والديون المضمونة حكوميا بنسبة 96 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي تقريبا. 

      والأردن معتاد على مديونية عالية فقد كانت ديونه الخارجية 190 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1989 انخفضت الى 66 بالمائة عام 2004.  وايضا كان عجز الموازنة العامة مالوفا في الأردن حوالي 22 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي عام 1989 انخفض الى 13 بالمائة عام 2004 وحوالي 4 بالمائة عام 2015، ويعتمد الاردن في تمويل عجز الموازنة العامة على منح وقروض خارجية. وتدل تلك المؤشرات بمجموعها فعلا على ازمة في الأقتصاد الأردني. 

 وتلك الأزمة بنيوية في اساسها، ومما يدل على صحة هذا التشخيص: ان الأدخار الأجمالي نسبة الى الناتج المحلي لا يزيد على 12 بالمائة، ولا يكفي لتمويل الأستثمار المحلي الذي يقدر 24 بالمائة من الناتج المحلي والمطلوب زيادته. وهذا الخلل يعكس العجز المزمن في الميزان الخارجي الذي يعتمد في تمويله على تدفقات طوعية من الخارج كما تقدم او تقترض الحكومة من السوق المالية الدولية بشروط صعبة بما فيها فوائد عالية. 

 ويشكل الاستهلاك الخاص نسبة 79 بالمائة من الناتج المحلي وهي مرتفعة مقارنة بالمتوسطات العالمية، وتواجه السياسة الأقتصادية ضغوطا اجتماعية قوية لزيادة الأستهلاك الخاص أي تعميق العجز والاعتماد على الخارج. وتقدّر الصادرات من السلع والخدمات بنسبة 33 بالمائة تقريبا من الناتج المحلي بينما الأستيرادات 55 بالمائة منه، أي ان عجز الميزان التجاري 22 بالمائة من الناتج المحلي. 

 وأحرزت الأردن نجاحات في تحديث الزراعة وكفاءتها عالية لكن شح المياه يقيدها ولذلك بقي اسهامها في الناتج المحلي دون 5 بالمائة، وجميع القطاعت السلعية من غير الزراعة لا يتعدى اسهامها 29 بالمائة من الناتج المحلي، بما فيها التعدين والصناعة التحويلية والبناء والتشييد والكهرباء والماء، بينما الخدمات بالمعنى الواسع اسهمت بحوال 67 بالمائة.  وهذه البنية ليست ملائمة لدولة نامية لا يتعدى متوسط دخل الفرد فيها 5000 دولار.  وعند النظر الى بنية الناتج من جهة التشغيل نجد ان 78 بالمائة من القوى العاملة تستوعبها انشطة الخدمات، وهذه شديدة الحساسية للطلب الكلي والأنفاق الحكومي والسياحة وما اليها، ونسبة القوى العاملة من الأردنيين في الخدمات أكثر والبيانات الرسمية تقدرها بنسبة 80 بالمائة أي اقل من 20 بالمائة من المشتغلين الأردنيين يعملون في القطاعات السلعية.

   حجم الائتمان الداخلي من المصارف الى القطاع الخاص نسبة الى الناتج المحلي مرتفع مقارنة مع الدول المقاربة في مستوى التطور الاقتصادي، وكذلك الرسملة، رؤوس اموال الشركات المساهمة نسبة الى الناتج المحلي هي مناسبة.

مستوى المعيشة والعمل: 

    لكن تلك المؤشرات لا تكشف جميع الحقائق التي يعيشها الناس، لأن التفاوت في توزيع الثروة والدخل يتعذر قياسه بدقة وان كان المؤشر المتاح، معامل جيني، حوالي 39 بالمائة لا يخفي هذا التفاوت لكن البيانات تعود الى سنوات سابقة، وايضا هناك الأقتصاد غير الرسمي، كما ان حديث الشارع عن النزاهة يؤثر في الموقف من الأدارة الأقتصادية ويفاقم سلبيات الأداء في نظر الأغلبية.

    ونسبة من يعيش دون خط الفقر الدولي (2 دولار للفرد في اليوم) 1.8 بالمائة من سكان الأردن. لكن نسبة السكان الفققراء ترتفع الى 25.4 بالمائة من مجموع السكان عند تعريف خط الفقر باربعة دولارات للفرد في اليوم. بمعنى ان ربع الأسر التي تتكون من خمسة افراد تعيش دون 600 دولار في الشهر. وهذه المستويات من المعيشة ليست غريبة على البلدان النامية لكنها في الاردن تبدو مرهقة او يتطلعون لتجاوزها.

      الاردن من الدول المصدرة للقوى العاملة وتحويلات العاملين من المصادر التي يعول عليها لتمويل العجز التجاري المزمن او ربما البنيوي في اقتصاد الاردن. وتؤثر في مقادير التحويلات، الى الأردن، عوامل داخلية ذات صلة بالسياسات الاقتصادية الكلية ومنها اسعار الفائدة الحقيقية وملائمة سعر الصرف وعوامل الجذب الأخرى، كما تتأثر ايضا يالسياسات الأقتصادية للدول التي يعمل لديها الأردنيون وفرص الأستثمار وعوائدها هناك. 

ورغم انتفاع الاردن من تحويلات العاملين في الخارج لكن آثارها السلبية على الاقتصاد ايضا لا تنكر حيث تصبح القوى العاملة الماهرة نادرة، ويضطر الاردن الى استيراد عمالة من مصر وبلدان آسيا، بحيث أصبح صافي ايراد العمل الاردني في الخارج محدودا. وفي السنوات 2010 الى 2012 كانت التحويلات المدفوعة من الاردن للقوى العاملة الاجنبية تفوق مستلماته من تحويلات الاردنيين في الخارج، بحيث كان ميزان التحويلات سالبا بمبلغ 2550 مليون دولار عام 2012، حيث وصلت المبالغ المدفوعة للعمال الاجانب ما نسبته 20 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي تقريبا، والمستلم من التحويلات بنسبة 11.8 بالمائة من الناتج المحلي لتلك السنة.  وللسنوات 2013 الى 2016 كان الميزان موجبا ووصل اعلاه عام 2015 بمقدار 2653 مليار دولار حيث استلم الأردن ما نسبته 14 بالمائة من الناتج المحلي تقريبا في مقابل مدفوعات للعمال الاجانب بنسبة 6.7 بالمائة من الناتج المحلي لتلك السنة. 

       بمعنى ان تحويلات العاملين تبين وجود مشكلة في بنية القوى العاملة فحواها عدم التلاؤم بين جانبي العرض والطلب، وذلك ما تدل عليه نسبة البطالة في عام 2016 عندما تقدر 18 بالمائة من النشطين اقتصاديا، وتقديرها غير الرسمي اعلى. ويبدو ان قيم العمل تأثرت كثيرا بمزاج الطبقة المتوسطة في دول النفط المتطلعة الى المكاسب شبه الريعية من انشطة اعمال خدمية ومهن مكتبية. 

 والاردن يعاني مشكلة فرص العمل المحدودة للخريجين واعدادهم لا تتناسب مع احتياجات الأقتصاد فنيا، وسوق العمل لا يستوعب أكثر من 40 بالمائة من الخريجين سنويا.

اما القوى العاملة بالمستوى التعليمي دون الجامعة فهؤلاء يتنافسون مع الاجانب، فالمهن ذات الاجر الواطئ وانشطة العاملين لحسابهم الخاص ينافسها الوافدون من جنسيات أخرى. وربما ازدادت البطالة الاختيارية لأنخفاض الاجور في المهن واطئة المهارة. لكن الإحصاءات لا تبين تلازما بين تدفق اللاجئين والبطالة، وربما عوّض اللاجئون الحاجة لقوى عاملة اجنبية كان الاردن يستقطبها بخلاف ذلك. 

   سياسة الصندوق والأحتجاجات:  

   وجاءت الاحتجاجات الأخيرة في سياق رفض التقشف، وارتفاع اسعار السلع التي كانت مُعانة، وزيادة الضرائب بموجب برنامج صندوق النقد الدولي. فضريبة الدخل على الأشخاص تزداد بما لا يقل عن 5 بالمائة، وعلى الشركات بين 20 بالمائة الى 40 بالمائة، وفرض ضريبة مبيعات على 165 مادة وزيادة اسعار الوقود والكهرباء والماء، وذلك حسب مصادر صحفية. 

      لقد زاولت المؤسسات المالية الدولية، الصندوق والبنك، ضغوطا على الأردن لتغيير سياسات مالية -اجتماعية اصبحت مألوفة للتوافق بين الحكومة والجماهير العريضة. وقد استجابت الحكومة لأجراء " إصلاحات هيكلية" حسب برنامج صندوق النقد الدولي، المتفق عليه في آب 2016 ، مقابل قروض محدودة، ويقصد بتلك الأصلاحات عادة خفض او الغاء الأعانات وزيادة الأيرادات الضريبية لتقليص عجز الموازنة العامة والدين العام وتضييق النطاق الحكومي في الأقتصاد " الخصخصة".  ويطلب منه ايضا تنويع مصادر الطاقة وتحسين مناخ الأستثمار، وتدابير اخرى في آليات مجموع النظام الأقتصادي وإطاره القانوني والقواعد التنظيمية لدفع الأردن قريبا من النموذج الليبرالي الصافي بالصيغة الجديدة. ومن المعروف ان دول العالم الناهض، الكبيرة منها خاصة، تطالب بدور أكبر في ادارة صندوق النقد الدولي بما يتناسب مع ثقلها الاقتصادي الحالي، وشعوب الدول النامية تشتكي من التعنت في السياسات التي تُفرض على حكوماتها، وإحتجاجات الأردن من الأمثلة المعبرة عن الموقف من تلك السياسات.  

   من الواضح ان المستوى المعيشي الذي يريده الشعب الاردني والأنفاق الحكومي كلاهما يتجاوزان الإمكانات الأقتصادية، وتحويلات العاملين والأستثمارات الأجنبية في الأردن لا تكفيان لتغطية العجز، وقد لا تتمكن حكومة الأردن من الأقتراض إذ تواجه شروطا قاسية. وفي الأمد القصير وربما حتى المتوسط لا تلوح في الأفق حلولا مستدامة، وفي النهاية التصنيع الموسّع فقط يمثل مخرجا للأردن من مأزقها الاقتصادي. اما المساعدات من دول المنطقة فهذه ايضا اصبحت لها متطلبات سياسية، وقد تكون شروطها اعقد، في المحصلة الأخيرة، مما يفرضه صندوق النقد الدولي.

وقد تفقد الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة عالية المستوى التعليمي والتي تقود البيروقراطية الحكومية ثقة الشعب بها بعد ان كانت تمثل وعدا بالرخاء، إن لم تتمكن من إقناع الأغلبية بجديتها في تنظيف الجهاز الحكومي من خروقات الفساد، وتؤكد انتمائها المحلي في نمط الشخصية والثقافة. وثمة مخاطر مما تختزنه اوساط اجتماعية من استعداد للتطرف والذي توجد دلائل واضحة عليه.  وليس من الممكن اختزال المشكلة الى تفاوت في توزيع الثروة والدخل او فساد مالي، بل ان قيم العمل التي اشاعتها الطبقة المتوسطة ومصادر دخلها ليست ملائمة لنهضة اقتصادية جذرية.     

التعليقات
تغيير الرمز